mardi 12 novembre 2013

تصور لمنوال تنموي بديل ـ من الاستيلاء والإقصاء...إلى سلطة الشعب على الفضاء ــ د.عبد المجيد بنقياس ــ


الوعي في جوهره انفصال" ديكارت" 
دائماً طريق الصواب هو الاصعب” غاندي" 


المقدمة

منذ آلاف القرون استأثر موضوع المصلحة الفردية بحجم كبير من اهتمامات الانسان،فابدع في حبك أساطير ميثولوجية إطارها صراع بين الخير والشر،وجوهرها السلطة والخلود،وأساليبها الدهاء والإقصاء وذلك منذ أن تطورت لديه القدرة الذهنية على التجريد.فهذه تقصّ حكاية متمرّد على سلطان أعلى حتى لا يفقد مكانته الملائكية،وأخرى تبدع في حيثيات آكل ثمرة محرّمة طمعا في التوالد والخلود،وثالثة تروي تفاصيل قاتل الأخ لأخيه بغية الفوز بوراثة الخيرات والسلطة...الخ.كما استفزت المصلحة الفردية مخيّلة المفكرين العقلانيين،مثل هوبز(ق16)،الذي اعتبر أنّ الرغبة الإنسانية هي محرّك النشاط الاقتصادي والحراك الاجتماعي وأنّ الاقتصاد،والعلم،والفنون،والآداب تقتضي احترام العالم لرغبات الفرد،بينما رأى آخرون العكس،مثل جون لوك(ق18)،الذي رأى أنّ المصلحة الفردية هي التي أدخلت العداء،والحقد،والعنف،والتّخريب المتبادل،وشنّ آخرون،على خطى آدم فرغيسون،هجوما على منطق المصلحة الشخصية،مؤكّدين على أنّ العاطفة وقوّة العقل هما رباط المجتمعات وقوتها.أمّا آدم سميث(ق19)فأشار إلى امكانيات الاقتصاد العالمي الذي يكون فيه كل واحد شرطا لازدهار الجميع،وطالب رجال الدولة بأن يحرّروا اقتصادياتهم من الحماية المركنتيلية التي شلت المبادرة الفردية وعطلت التقدم الاجتماعي.ويقول آخرون،مثل روسو،بإنّ المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني هو ذاك الرجل(أي الفرد)،الذي وقف للمرّة الأولى،ليسيّج قطعة من الأرض ويصيح،"هذا لي !"،ووجد أناس بسطاء بما فيه الكفاية ليصدّقوا ذلك.
يكفي الاستشهاد بما تقدم حتى ندرك أهمية مكانة الفرد ككائن له حاجيات مادية وغير مادية.هذا الكائن الذي علّمته التجارب المتراكمة بأنّه غير ضامن لتحقيق حاجياته والحفاظ على مصلحته بمفرده،فتغلبت عليه روح البحث عن من يقاسمه المصالح(فئة،طبقة)لتقوية حظوظ النّجاح،وهذه الفئة أو الطبقة تبحث بدورها على التحالف مع من يقاسمها الأهداف المرحلية و/أو الاستراتيجية فتتوالد بذلك الكتل والجبهات.هكذا نمت وتطورت المؤسسات الاجتماعية(عائلة،عرش،قبيلة)والتعاونيات المهنية والنقابات والأحزاب.إنّ مجموع هذه المنظومات والفئات الاجتماعية التي تعيش في فضاء تحكمه المصلحة الشخصية والحياة العمومية الجماعية(قيم،تضامن،تبادل)في إطار من العلاقات الإنتاجية(حياة مادية)،هو ما نعته المفكرون بالمجتمع"المدني".وقد ربط  كل أصحاب هذه النظرية سيرورة تشكل المجتمع"المدني"بمسار تشكل الدولة،رغم الاختلاف الحاصل حول الأسبقية التاريخية لهذا أو ذاك،فمن قائل أنّ تشكل المجتمع"المدني"هو سيرورة سابقة لتشكل الدولة،إلى ثان يرى العكس تماما ويعتبر أنّ الدولة هي المسؤولة عن هذا التشكل.كما أنّ هناك نظرية ثالثة(ماركسية)لفظت هذا المفهوم(المجتمع المدني)معوّضة إيّاه بمفهومي قوى الإنتاج وعلاقات الانتاج.يعتبر أصحاب مفهوم"المجتمع المدني"أنّ لحرية الفرد والسوق والدولة أدوار محورية في عملية التّشّكل،في حين يرى أصحاب نظرية قوى الإنتاج أنّ الدور المحوري يعود إلى مستوى تقسيم العمل في علاقته الديالكتيكية بعملية تراكم رأس المال.لكن الإجماع حصل حول وصف المجتمع بكونه جملة من العلاقات الشبكية التضامنية أو التناحرية التي تربط الفئات أو الطبقات الاجتماعية،هذه العلاقات تمتاز بديناميكية دائمة محركها صراع المصالح الخاصة والفئوية/الطبقية ومحورها مجال النشاط ومشروعية سلطة الأطراف الفاعلة.وتلعب هذه الأخيرة دورا،تمليه موازين القوى،للتخفيض من وتيرة وحدّة الصراع بالضغط والقمع طورا والحوار طورا آخر،بحيث تتمطّط مكوّنات وأدوار المجتمع"المدني"عكسيا حسب قوة ضغط السلطة.كما أجمع كل المفكرين على أنّ لتشكل"المجتمع المدني"ظروف موضوعية مرتبطة عضويا بمدى تطور علاقات الانتاج،وحركية السوق الداخلي،وتأثير التبادل التجاري والثقافي مع المحيط الخارجي،وحول نوعية الفاعلين في ميدان هندسة المجتمع،واصفين هذا الأخير بكونه منظومة ديناميكية تشمل مجموع المؤسسات غير الرسمية المتكونة من الأحزاب السياسية والهياكل المهنية والجمعيات التنموية والمؤسسات العاملة في مجال الشأن العام وحقوق الإنسان.أمّا عن طبيعة المجتمع "المدني"فقد اعتبره الكثير بأنه توأم ورديف للسلطة،ذلك أن أحد أهم أعمال هذه المنظومة"المدنية"هو الرقابة/المتابعة/التقييم/المساءلة،والمشاركة الفعلية في تنمية المجتمع من خلال نشر قيم الحياة الجماعية والمساهمة في تعزيز السلوك"المدني".فالعلاقة بين مؤسسات المجتمع"المدني"والدولة هي علاقة متراوحة بين التكامل والمشاركة لسدّ الفجوات التي تخلقها سياسة الحكومة أو لخلق قنوات التواصل(دور الوسيط(من ناحية،والاختلاف والصراع من ناحية أخرى(دور المعارضة).إذن،فدور الأفراد والمجتمع"المدني"يتأرجح بين دعم السلطة حينا ومعارضتها أحيانا،إلى جانب دورههما في تقديم الخدمات الاجتماعية والمساهمة في بناء النسيج السياسي والثقافي.بعض هؤلاء الأفراد يهدفون الى المسك بزمام السلطة باعتماد هذه التشكلات"المدنية" باتباع طرق الدعاية والتحريض الفئوي أو الجماهيري وباستعمال أساليب مختلفة مثل الديمقراطية التمثيلية والانقلاب والثورة.وينعت بالحراك الجماهيري كل مسار استجابت فيه الأغلبية للدعاية والتحريض،وهو نوعان:إما انتفاضة اصلاحية لتحقيق مطلب أو بعض المطالب(مادية،حقوقية)أو ثورة لتفكيك النظام القائم بكل منظوماته وإعادة تركيب منظومات جديدة تلبي طموحاتها.
بعد هذه المقدمة لسائل أن يسأل: ما هي الأسباب الرئيسية الدافعة للحراك الاجتماعي وما هي تأثيراتها الجانبية ؟ هل ارتقت برامج الأحزاب والمنظمات المهنية والجمعيات ذات الشأن العام إلى مستوى التعبير السياسي على سقف الشعارات التي نادت بها الأغلبية الفاعلة ؟

ـ1ـ أسباب الحراك الثوري
لقد امتازت الساحة الاجتماعية والسياسية بتونس عن باقي البلدان التي شهدت هزّات اجتماعية بعدة خصائص تحيل المتتبع للشأن التونسي الى مزيد من التمحيص لاستشراف توجه الحراك الجماهيري.فالمتابع الحريص لهذا لحراك أمامه عدّة مؤشرات لها دلالات،بعضها جلي لا تستحق كثير من الجدال،والبعض الآخر تتطلب الكشف والتشخيص والدراسة المعمّقة.لكن من الأشياء الثابتة التي لا يختلف فيه اثنان هو أنّ هذا الحراك له جذور متشعبة(اقتصادية وسياسية،واجتماعية وثقافية،وتعليمية)تستدعي التشريح والكشف العلمي لخصائصها،لتحديد ماهية الأهداف العامة والخصوصية،وتدقيق النتائج المرجوة،ومعرفة الأنشطة الضرورية،وتقدير الامكانيات البشرية والمادية اللازمة لتلبية تطلّعات ومطالب الفئات الاجتماعية التي ساهمت ولا تزال في هذا الحراك الجماهيري.الخطء المنهجي الجسيم الذي يجب تجنّبه هو أن يكتفي الباحث،عند دراسة الواقع التونسي،بالمقارنة بين الماضي والحاضر أو التّفتيش في كتب التاريخ والموسوعات عن بعض التجارب المشابهة،ويتناسى الظروف التاريخية والأسباب والأهداف والفاعلين الأساسيين.هناك شبه اجماع على طبيعة الأسباب التي كانت اجتماعية الجوهر،اقتصادية الأساس وانسانية الأبعاد.فالظرف التاريخي الذي شبّ فيه الحراك الثوري هو السنوات المفصلية للعولمة(années de croisière)،والأسباب اقتصادية واجتماعية بالأساس تفرّعت عنها مشاكل عدّة في كلّ المجالات والأمكنة،والأهداف تكمن في القطع مع الأسباب حتّى يتسنّى للتّونسي كنس فروع المشاكل في مرحلة أولى،وقطع جذورها في مرحلة ثانية،أما الفاعلون الأساسيون فهم الفئات المهمّشة بالجهات الداخلية بالبلاد التونسية.
يرى أغلب المحللين أنّ المسار الذي انطلقت شرارته بسيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 لم تتوفر فيه شروط الثورة التقليدية،واختلفت بذلك النعوت من ثورة إلى ثورة مضادة،مرورا بطيف من النعوت الأخرى(ثورة معطّلة،مسار ثوري،انتفاضة عفوية،حراك اجتماعي،انقلاب...الخ).كما أنّ هناك شبه اجماع حول المستهدف الرئيسي بالإطاحة ألا وهو منوال التّنمية الفاشل ومريديه.هذا المنوال،المتسبب الأولي في كلّ الحيف والإقصاء الجهوي والاجتماعي،الذي يمكن تجسيده بمثابت حزمة مفاتيح:مفتاح لنهب ثروات البلاد والعباد،ومفتاح لتكبيل حرية الإبداع والمبادرة،ومفتاح لغلق أفواه طالبي الحقّ والحرّية.كما أكّدت الأحداث التي جدّت بتونس وغيرها من البلدان العربية والغربية(البرتغال،اسبانيا،اليونان(أنّ اعتماد المقاربة الفوقية غير مجدي،وهي التي أدّت إلى مزيد من الاقصاء والتهميش.البدائل ممكنة،لكن بشرط أن لا يكتفي الفاعلون بما هو معمول،بل بما يجب فعله !
لكن،مقابل وضوح الأسباب والأهداف،لم يقدم ما يسمى بالـ"المجتمع المدني"،بكل أطياف تشكّلها ومراجعها،إلا ببرامج تكتنفها الضبابية،غلبت عليها الصبغة الانتخابية،معتمدة مبدأ الإسقاط الحزبي الفوقي والتّمشي الاصلاحي القطاعي (إصلاح تربوي،زراعي،إداري،جبائي،إعلامي وقضائي)و/أو باعتماد الأسلوب الأخلاقي والقضائي لمقاومة الفساد الإداري والمالي.كما يظنّ البعض أنّه يكفي الزيادة في موارد الميزانية،باللّهث وراء المانحين الماليين والمستثمرين الأجانب وخصخصة القطاع العمومي وتنويع الضرائب والزيادة فيها،وتغيير أولويات صرف هذه الميزانية بطريقة تفاضلية(الجهة،القطاع)حتى تنهض القطاعات والجهات.إنّ المنوال التنموي البديل لا يكمن في اختيار أفضل سيناريو تنموي داخل منظومة المنوال الفاشل ! فهذه الطريقة تعني السّقوط في فخّ التكنوقراطية العلموية،وهي تمشّي أعرج وإقصائي أثبتت التجربة القطرية والإقليمية والعالمية حدوده ونواقصه.

ـ1.1ـ الوضع العالمي: بين ضرورة العولمة وأضرار الكوكبة

بادئ ذي بدء،يجب تقديم مقتضب،لمفهومي العولمة (Mondialisation)والكوكبة أو الكونية(Globalisation)كما عرّفهما  بعض منظّري العصر الحالي،حتى يقع تفادي بعض اللّبس من ناحية،ولتظهر واقعية وجدوى مقاربة المنوال التنموي الذي سيقع اقتراحه من ناحية أخرى.
إنّ العولمة،حسب هؤلاء،سيرورة كونية حتمية غير قابلة للتّراجع،تهمّ كلّ مجالات الحياة البشرية،ترتكز على هدم الحواجز المفتعلة المقيدة لكل عملية إدماج واندماج وابداع،تأسّس لآفاق رحبة أمام تفاعل الحضارات الإنسانية.للعولمة بُعد حضاري استراتيجي،وهي أسلوب حوكمة يلاءم بين قدرات وحاجات الإنسانية من جهة،وبين سكان الكوكب الأرضي والمقدرات الفانية والمتجددة المتوفرة من جهة ثانية.كما أنّ العولمة تناهض أن يكون المنتوج غير المادي للانسانية(علوم،ثقافة،تراث مادي وغير مادي)سلعة للمتاجرة والتّسويق.
أما الكوكبة أو الكونية،في نظرهم،فهي ذاك الكمّ الهائل من المؤسسات الإدارية والإنتاجية والخدماتية المحدثة،وحزمة الآليات القانونية المصاغة لغايات احتكارية،بالتالي فهي قابلة للنّقض والتّفكيك.فللكوكبة بُعد اقتصادي ومالي بحت،لا تكترث بالناحية البيئية،ولا تفعل لضمان حقوق الأجيال القادمة.فثنائية المكيالين هي أهمّ سياسات الكوكبة،حيث عملت على اندماج وإدماج بعض الفضاءات بأن سمحت بحرية النقل والتنقل قابلهما إقصاء وتهميش وتجزئة بحواجز قانونية وأمنية وعسكرية في أماكن أخرى،كما وحدت السّياسات في مواقع قابلها تحريض على الانفصال بطرق ووسائل عديدة منها السياسي والعسكري تحت سقف تعلاّت محبوكة في أصقاع أخرى.
انطلاقا من هذا التعريف،لا يختلف اثنان حول نُبل أهداف العولمة،لكن بقي هناك جدال حول الأولويات.فأصول هذا الاختلاف تعود بالأساس إلى اختلاف موقع ومصالح الفاعلين.فالبعض يعطي الأولوية للجانب الاقتصادي على حساب الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية،وطرف ثاني يرى العكس تماما،في حين يرى طرف ثالث أنّ تداخل كلّ جوانب الحياة وتأثّر بعضها ببعض يفرض الاهتمام بكلّ الجوانب الحياتية على نفس القدر من الاهتمام.فالطرفان،الأوّل والثّاني،يتفقان على مقاربة تقرّ ضمنيا باستحالة المساس بكلّ الجوانب لاعتبارات حضارية(اجتماعية،ثقافية،مؤسّساتية)وأخرى منهجية مرتبطة بكيفية تحديد الاستراتيجيات وطرق البرمجة. يعلّل هاذان مقاربتهما بالتفاعلات الممكنة والتّأثيرات الجانبية التي تحكم كلّ سيرورة تنموية.فبالنسبة لهما،تنمية إحدى المجالات تؤدّي بالضّرورة إلى حفز الجوانب الأخرى على المسايرة،ولو بنسق مختلف(على شاكلة انحدار كتلة ثلجية)،باعتبار أنّ نسق التّحول التقني والمادي يفوق نسق التّغيّر الثقافي والاجتماعي.ففي نظر هاذان الطّرفان يجب التوجه إلى مسار تنموي يرتكز على الأولويات الممكن انجازها خلال حيز زمني محدود في إطار حزمة من البرامج لها قابلية التّنفيذ على المدى القصير والمتوسط.لكن،يختلف أدعياء هذه المقاربة في الأوليات،فالطّرف الأوّل يقترح فتح الحدود أمام البضائع والأشخاص ورأس المال كأولوية مطلقة للتنمية تصاحبها إصلاحات هيكلية تهمّ المؤسّسات الإدارية والمنتجة الخدماتية.هذا الإصلاح المؤسّساتي يهدف إلى تأهيل وتحسين مستوى الإنتاج(مادي و غير مادي)وهو يعتمد في جزء هام على تطوير الكفاءات البشرية واعتماد الوسائل التكنولوجية الحديثة مما يفرض إطلاق أيدي الكفاءات لاستنباط واقتراح ما هو مفيد لتحديث ورفع مستوى الإنتاج أي فتح مجال أرحب أمام الفاعلين للقيام بالبحث والتنفيذ والمتابعة والتقييم،وهذا لا يمكن انجازه إلّا بكسر القيود البيروقراطية المقيّدة التّي تعطّل سيرورة العملية التنموية،أي تحييد وتقزيم دور الدولة مقابل إطلاق يد"المجتمع المدني".أما الطرف الثاني،فهو يفضل عكس الأولويات معلّلا ذلك بانعدام البنية الأساسية والتعليمية والمؤسّساتية اللاّزمة للتأهيل،وبغياب الإرادة السياسية للحكومات وضيق مجال نشاط"المجتمع المدني".أمّا الطّرف الثالث  فهو يعتمد على المقاربة الشمولية،ويقترح أجندة تهمّ كلّ المجالات في حزمة مندمجة مع الاقرار باختلاف سرعة إنتاج هذا القطاع عن ذاك.كما يتمسّك،هذا الطرف،بضرورة الإقرار بالخصوصيات الاجتماعية والثقافية لكلّ دولة.من هذا المنطلق،فهو يقترح دراسة أوضاع الدول حالة بحالة ويقترح أن تكون الوصفة التنموية مناسبة للقدرات والإمكانيات المتوفّرة.
بعد التعريف بالمفاهيم والمقاربات،للباحث أن يسأل عن ماهية الدّوافع التي أدت الى صياغة عالم اقتصادي ونقدي"جديد"وعن موقع زوايا النّظر والتّقييم لتحديد العواقب(ايجابية أو سلبية)الممكنة للعولمة ؟

استبشرت كلّ شعوب العالم عند تعداد الأهداف المعلنة ممّا جعلها تصمّ الآذان أمام بعض العارفين بخفايا الأسباب الدافعة والأهداف الحقيقية المرجوة.لكن ها هي الشعوب بكل أقطار العالم في حالة احتقان وحراك اجتماعي ضدّ تأثيرات تلك الخيارات المبنية على إعادة تقسيم عالمي جديد للعمل(صناعة،تجارة،خدمات/فلاحة،مناجم،طاقة).فهذا التقسيم أدّى إلى ارتفاع نسق الأزمات النقدية واتساع رقعتها الجغرافية،والى ازدياد عدد المهمّشين والفقراء حتى داخل البلدان"المتقدمة"،وإلى أضرار بيئية صعبة العلاج،وإلى حروب أهلية وإقليمية بكل القارات.لا جدال أنّ الأسباب الدفينة تمكن في صراع الدول الصناعية حول مصادر المواد الأولية المتوفرة فوق الأرض وتحتها من مناجم وآثار ومياه وحقول فلاحية،وداخل الغابات من أشجار وأعشاب طبية وثمار لتغذية الإنسان والحيوان،وفي الصحاري من رمال ومناجم ومياه جوفية،وفي البحار والمحيطات من نفط وأسماك،وفي الفضاء من طاقة شمسية وهوائية.كما تسعى هذه الدول الى احتكار الأسواق والمواقع الإستراتيجية العسكرية.فالأهداف الحقيقية للكوكبة يمكن حصرها في تعبيد وتحرير كلّ الطرق أمام الشركات الاحتكارية العالمية ومن ورائها حفنة أرباب رأس المال.فما حروب الغزو باستعمال ترسانة أسلحة غير تقليدية للتّقتيل والتهجير الجماعي،وما حروب المناولة إلا جزء من خطط لاستعمار مباشر وغير مباشر لغاية وضع اليد على مصادر الثروات ونهبها.كما أنّ تسريع الدول الصناعية الكبرى في إعادة هيكلة المؤسسات النقدية والأمنية والتنموية التابعة للأمم المتحدة ووظائفها وتغيير الآليات لا تعدو أن تكون إلا رافد من روافد للتحكم في ثروات الشعوب تحت يافطة"التضامن الأممي".فالنتائج السلبية للكوكبة ما فتئت أن ظهرت للعيان وما انفكت تتفرع عموديا(قطاعيا)وتنتشر أفقيا(جغرافيا)في كل أرجاء المعمورة،والمتمثلة في:
ü      أزمات مالية وركود اقتصادي؛
ü      مديونية تحاصر اقتصاديات كل البلدان؛
ü      حصار المنتجات غير المادية بجملة قوانين وآليات(ملكية فكرية)حتى يسهل الاتجار بها؛
ü      عبث بيئي مؤرق للعلماء والشعوب؛
ü      سباق لتصنيع بعض المواد الأساسية،مثل تحلية مياه البحر واستخراج الحليب من النباتات وصناعة اللحوم داخل المخابر واستنباط المشاتل النباتية والأصناف الحيوانية المعدلة جينيا؛
ü      صراع حول إنتاج الطاقة النباتية وما يتطلبه هذا النشاط من عناصر لإنتاج للمواد الأولية(أراضي،مياه)ومن استثمارات للتصنيع والنقل؛
ü      استثمار كبير في القطاعات الخدماتية والأجهزة الالكترونية والعسكرية؛
ü      تحييد وتقزيم دور الحكومات اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لفتح الفضاء أمام الخوصصة؛
ü      تقليل مداخيل الدول بكسر الحواجز الجمركية وفتح فضاء للتبادل التجاري الحر.

لا شكّ أنّ سياسة البلدان الرأسمالية أو ما يسمى بدول"المحور"أو"الشمال"مؤثرة بشكل مباشر في سياسات بلدان"المحيط" أو"الجنوب"كما يحلو للبعض أن ينعتها.فما هي تأثيرات تلك الخيارات الليبرالية على المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المنظومات والأنظمة بالأقاليم والأقطار ؟

ـ2.1ـ الوضع الإقليمي: العمالة المدبّرة والكوكبة المدمّرة

صدق حدس بعض من قال أنّ رأس المال لا ينقطع في الضغط عن عصر أجساد الملايين لاستخراج فائض القيمة،ولا يتراخى لحظة أمام تسليع كل إنتاج مادي كان أو غير مادي،ولن يتراجع في استعمال كل طرق السّطو والوسائل الوضيعة لوضع ثروات العالم تحت السيطرة،ولن ينقص الضغط على رجال السياسة لأجل المصالح الآنية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية،ارتأت حكومات البلدان المنتصرة عسكريا على تقسيم عالمي للعمل موازي للتقسيم الجيوستراتيجي،وابتدعت لذلك جملة من المؤسسات الدولية تحت مظلة عصبة الأمم(الأمم المتحدة فيما بعد)،واستبدل الذهب بالدولار الأمريكي،واستبدلت أسلوب الاستعمار العسكري المباشر بتركيز حكومات موالية(عشريتي الستينات والسبعينات).لئن شهد العالم هدنة ظاهرية(فترة الحرب الباردة)بين قطبين اثنين(اشتراكي/رأسمالي)فهذا لم ينفي وجود بعض المحاولات للتخلص من جاذبية قطبي مغناطيس التقسيم الجيوستراتيجي القديم الجديد،لكن قوة الجذب كانت أقوى من أن تردّ،حتى أنّه لم تحل بداية الثمانينات إلاّ وقد دخلت جل البلدان بما فيها البلدان العربية إلى بيت الطاعة الليبرالي.فالبلدان العربية الخليجية المنتجة للبترول لم تكن يوما سيدة نفسها،ومن رفض دخول بيت الطّاعة من بين البلدان الأخرى قوبل بالإقصاء السياسي وحيكت له الدسائس والحرب الأهلية(الجزائر،السودان)أو أسقط بتدخل عسكري مباشر(العراق،ليبيا).أما عن تلك التي تفتقر أراضيها للذهب الأسود(مصر،تونس،المغرب،الأردن،لبنان)فلم يكن لها القدرة على مجابهة الضغوط للقيام بإصلاحات هيكلية شملت كل القطاعات وانحنت أمام الابتزاز السياسي والأمني المخل بالسيادة،كما تعددت المحاولات لتأسيس كيانات هجينة من قبيل الفضاء الأورو متوسطي أو الشرق الأدنى الكبير.هكذا تحولت كل الأقطار العربية إلى فضاء مفتوح لصراع الدول الصناعية التقليدية فيما بينها من ناحية،و بينها وبين الدول الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل من ناحية أخرى،صراع حول مصادر الطاقة قصد استغلال كل عناصر الانتاج المتوفرة(أراضي خصبة،مياه،مناجم)،وأضحت الحكومات العربية مسخرة لإنجاز الإملاءات الاقتصادية والسياسية والنقدية والأمنية والعسكرية.أما عن النتائج الثانوية لهذه البرامج  فقد تمثلت في تفاقم عدة ظواهر إقليمية،من أهمها:
ü      استنفار حدودي دائم؛
ü      استفراد بموارد الريع البترولية؛
ü      ارتفاع ظاهرة التّهميش الجهوي والقطاعي داخل الأقطار العربية؛
ü      استفحال ظواهر الفساد الإداري والمالي(محسوبية،محاباة،سوء تصرف،نهب الثروات،انعدام الشفافية،كسل)؛
ü      انتشار الظواهر الاجتماعية المرضية(إدمان،تجارة الأجساد،قمار،سرقة،تحايل)،ومحاولات التغيير(انتفاض فردي أو جماعي)أو الهروب(نزوح،هجرة سرية،انتحار)والعمالة وشراء الذمم مقابل المال أو الحصانة السياسية.

في ظلّ هذا الفضاء،لسائل أن يسأل عن ماهية وحجم المساهمات والبدائل التي قدمها التونسيون من رجال السياسة وأهل الاختصاص في العلوم الاقتصادية والنقدية ومن الإعلاميين والمثقفين لدرء مخاطر الكوكبة ؟

ـ3.1ـ الوضع القطري: الاستيلاء والإقصاء

في خضم هذه التّطاحن والتّجاذب القديم الجديد،لم تسلم تونس من محاولات نهب ثرواتها على ندرتها.لا يسمح المجال لسرد وجرد طويل لكل الملفات التي كانت مواضيع بحوث أكاديمية متوفرة بمدارج مكتبات المعاهد والكليات،بل يكفي التذكير بأهم الاتفاقيات.فالاتفاقيات المبرمة مع فرنسا(استقلال داخلي)،ومنوال التنمية المعتمد على القروض الخارجية والهبات لم تكن غير حلقات لسلسلة لتدجين اقتصادي ومالي واجتماعي.فالستينات هي سنوات الدولة المركزية المهيمنة على كل الدواليب والقطاعات،سنوات هيكلة الفلاحة(إحداث التّعاضديات والدّواوين،ميكنة)وتأسيس ودعم نوات قطاعي السياحة والصناعات الإستخراجية والتحويلية(فسفاط،بترول،فولاذ).يشهد جل العارفين،أن هذه العشرية هي عشرية تنمية المدن الساحلية على حساب الجهات الداخلية والأرياف.ففائض القيمة،على ضعف نسبته الكمية وهزال حجمه النقدي،كان يوظف لنمو المدن الساحلية وتونس العاصمة ولاستخلاص ديون البنك العالمي.كما كل منظومة اجتماعية غير متجانسة،لا تفي بحاجة كل مكوناتها،عرفت البلاد اختلال ديمغرافي من خلال الزيادة العددية والنزوح نحو المدن،وانخرام اقتصادي بعد وضع يد الحكومة على عملية الإنتاج والخزن والتوزيع،مما نتج عنه تململ اجتماعي داخل القرى والأرياف انتهى بهزّة سياسية(محاكمة بن صالح1969)وبتغيير نهج السياسة الاقتصادية.أما العشريتين المواليتين،فقد شهدت البلاد خلالها اتباع سياسة ليبرالية شهدت خلالها البلاد حالة من النماء الاقتصادي عماده نوات المنشئات التي أحدثت في الستينات مع حزمة من القوانين المحدثة(قانون72 و74 و76)وظروف الأزمة البترولية(1973)التي ساعدت على ارتفاع الدخل الوطني الخام وتحسين الموازنة المالية واعتدال نسبي للميزان التجاري.لكن هذا النماء لم يصحبه نمو باعتبار أنّ فوائده لم تكن إلا في صالح فئات محدودة من المجتمع،والدليل على ذلك تواصل التململ الاجتماعي الذي انتهى بانتفاضة 26 جانفي 1978 وما تلاها من قمع سياسي وأمني،وحراك فردي(أحداث قفصة 1982)وجماعي(انتفاضة الخبز جانفي 1983)،وصراع على السلطة داخل قصر قرطاج ودهاليز وزارة الداخلية وأروقة مؤسسات المخابرات الأمريكية والفرنسية،انتهى بصعود زين العابدين بن علي (زعبع)وزمرته إلى أعلى هرم السلطة بالبلاد(7 نوفمبر1987).
أول الخطوات التي ارتآها"زعبع"ومساعدوه تكمن في زجّ المنظومة الاقتصادية في أتون الليبرالية المتوحشة من خلال فتح بوابة الخصخصة علي مصراعيها،وكسر كل الحواجز الجمركية أمام السلع والأفراد والأموال،هكذا أصبح الفضاء الحياتي التونسي مستباحا للنهب المباشر للثروات والاستغلال الفاحش لسواعد وعقول التونسيين.فبالاتفاقيات المبرمة مع الغات(1990)،والمنظمة العالمية للتجارة(أفريل 1994)،والاتحاد الأوروبي( جانفي1996)اكتملت الأسس القانونية لتدجين السيادة القطرية والدفع باقتصاد البلاد في دائرة الثقب الأسود:رأس المال المالي والفاعلين من المؤسسات الاحتكارية بمساعدة بيادق محليين.أما على المستوى الداخلي،فقد استهل"زعبع"سياسته باتخاذ تدابير استباقية بقمع الحريات العامة والفردية،والاستحواذ والهيمنة على منظومة السّلط القائمة(تنفيذية،تشريعية،قضائية وإعلامية)،وبإقصاء سياسي وتصفية جسدية لكل فرد"مارق"،وبابتزاز مالي ومعنوي لكل متأرجح وانتهازي،وباستدراج أو تلجيم مكونات المجتمع"المدني"على رأسها الاتحادات المهنية(اتحاد الصناعة والتجارة،اتحاد الفلاحين،اتحاد المرأة،اتحاد الشغل...).لكن،كل الإجراءات الوقائية الأمنية والسياسية لم تمنع من انتشار فيروس الغضب والإنتفاض.فأغلب الفئات الاجتماعية وبعض الجهات الداخلية التي عانت من الإقصاء والتهميش والقمع تململت وانتفضت لكنها جوبهت بالقمع البوليسي والتعتيم والتشويه الإعلامي وغياب المساندة الواسعة من بقية الفئات والجهات(الحوض المنجمي2008).لكن،بداية من 17 ديسمبر 2010،استبدل المواطن التونسي عقد الخوف بعقد اجتماعي يحتوي على فصول من الشعارات التي تختزل طموحاتها الآنية والمتوسطة المدى،شعارات من قبيل:"التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"و"لا إقصاء ولا تهمي،الشعب يحب يعيش"و"شغل،حرية،كرامة وطنية"و"الشعب يريد إسقاط النظام"إلى جانب بعض الشعارات القطاعية الخصوصية.

فجذور المسار الذي انطلق بداية من 17 ديسمبر 2010 تاريخية مرتبطة ارتباطا عضويا بالخيارات الاقتصادية  والاجتماعية والسياسية  والثقافية  والتعليمية المتبعة منذ الحقبة الاستعمارية المباشرة الى غاية اليوم.فنمط الانتاج المتبع،والبرامج المصاغة،والكيفية التي بها انجزت المشاريع التنموية،وعلاقات الانتاج المترتبة عنها،وموقع تونس في خارطة التقسيم العالمي للعمل هي العناصر المحددة لطبيعة المجتمع التونسي.فتلك الخيارات وذاك التموقع يمثلان إحدى الأسباب الرئيسية للحراك الذي عرفته البلاد خلال العقود السابقة وذلك برغم اختلاف التّمشّي والآليات.لكن غاية هذه الوثيقة تدفع منهجيا الى اختزال قراءة الماضي بالتركيز على أهم المراحل وما ميّز بعضها عن بعض أو وجه الشبه بينها.فإذا كان مصطلح"منوال"في علوم الرياضيات يعني مجموعة من القيم التي تتكرر أكثر من غيرها،وقد لا يكون للقيم منوال وقد يوجد أكثر من منوال واحد لقيمة ما.يمكن أن يعرف المنوال التنموي،بطريقة الموازاة،بأنّه تكرار لنفس الخطط العامة والبرامج الشاملة والمشاريع التنموية المصاغة بنفس الطريقة والآليات وباعتماد نفس الفاعلين والموارد.لقد امتازت السياسة التنموية المتبعة،طيلة العقود السابقة بانعدام التوازن الهيكلي المزمن،وبرابطين مشتركين(القيم المتكررة)هما  :
  •       المحافظة على جوهر علاقات الانتاج السائدة برغم تطور وسائل الانتاج وبرغم الانفتاح على الأسواق الاقليمية والعالمية؛
  •       المحافظة على تركيبة الدولة في كلّ المستويات:مستوى السلطة والمؤسسات المتصرفة(شكل الملكية،كيفية الاستغلال،كيفية توزيع التروة،مرجع الفوائد،...)وصيغ التصرف في الموارد الطبيعية والبشرية.


1.3.1/ المحافظة على جوهر علاقات الانتاج السائدة :
برغم عمليات التعديل والتحوير المتتالية بقيت علاقات الانتاج السائدة محافظة على جوهر النمط القديم و يبرز ذلك جليا في عدّة واجهات:

أ/ من ناحية ملكية وسائل الانتاج:شهدت ملكية وسائل الإنتاج فردية كانت أو مشتركة أو عمومية عدة تحولات.فقد عمدت الحكومات المتعاقبة على التحكم في عملية الانتاج من خلال التخطيط المركزي وابتكار آليات"التحفيز والدّعم"لتوجيه القطاعات الانتاجية والتحكم في الأسواق بتعلة"الدور التعديلي"للدولة،واتّباع سياسة تدفق تكنولوجي لتطويع وسائل الانتاج والاستغلال الفاحش دون مراعاة للخصوصيات المحلية المعرفية والطبيعية.فالملكية الفردية للأراضي الفلاحية شهدت تحوّلا تميّز بالتّشتت نتيجة النمو الديمغرافي وآليات التوارث وظاهرة النزوح.كما تحولت الأملاك العمومية،تحت يافطة الخوصصة، لدعم الاستثمار والبحث عن الجدوى الاقتصادية،الى أملاك خاصة و/أو تحت تصرف الخواص من التونسيين والأجانب.

ب/من الناحية الاقتصادية:اعتمدت الحكومات المتعاقبة على جملة من الأنماط القطاعية.
ü      نمط انتاج فلاحي تقليدي برغم الميكنة وعملية التكثيف(Intensification)مع سيطرة الدولة على عملية الخزن والترويج عبر الدواوين والشركات الحكومية المحدثة للغرض(ديوان الزيت،ديوان الحبوب،ديوان الأراضي الدولية،شركة اللحوم،الشركة التونسية لصناعة الحليب...الخ)في تناغم تام مع اخطبوط السماسرة القانونيين منهم(شركات أو تعاضيات أو مجامع التجميع ومصانع تحويل المواد الفلاحية،هبّاطة بأسواق الجملة والأسواق البلدية)وغير القانونيين(خضّار الصّابة،جلاّب الحيوانات،سمسار الأعلاف)؛
ü      قطاع صناعة استخراجية تابع تكنولوجيا،تحكمه آليات تصرف قانونية ابتزازية؛
ü      قطاع صناعات تقليدية مهمّش انتاجا وتسويقا مقابل دعم كبيرل لقطاع الصناعي المحدث؛
ü      قطاع سياحي ذو مردودية محدودة ومتواترة؛
ü      قطاع تركيب وصناعة الآلات الكهروـ منزلية والإلكترونية تحت طائلة قوانين لابتزاز فائض القيمة؛

ج/من الناحية التجارية:شجّعت الحكومات المتعاقبة على انتاج السلع الغذائية قصد التصدير وفق شروط مجحفة تحت حجّة البحث على الموازنة المالية بين الواردات والصادرات وللرفع من احتياط العملة الصعبة،ودعّمت انتاج بضائع موجهة للسوق المحلية للاستهلاك العائلي وحاجيات القطاع الصناعي والخدماتي)غذاء،بناء(،كما تدخّلت لاستخراج مواد أولية باطنية للتصدير وفق شروط انتاج مسقطة غير مجدية اقتصاديا ومخلّة بالسيادة الوطنية؛
ح/من الناحية السياسية:عملت الحكومات المتعاقبة على استعمال كل وسائل الضغط الممكنة بالاعتماد على قاعدة ثلاثية الأسس:المزاوجة بين مؤسسات الدولة والحزب الحاكم،والتّدجين الفكري،والقمع المادي.
خ/من الناحية الاجتماعية:صُمّمت سياسات دافعة الى تملص الدولة من القيام بالدور الاقتصادي والاجتماعي أدّت الى تفقير الريف ماديا وبشريا،وأحدثت أضرارا بيئية صعبة الاصلاح،ومهّدت إلى"ترييف"المدن وتهميش الطبقة الوسطى؛
د/من الناحية  الأخلاقية:اتبعت سياسة للزيادة في وتيرة الفساد داخل كل مفاصل المجتمع وأجهزة الدولة،مع التسويق الفاضح للربح المالي السهل عبر المقامرة والرشوة  والبحث عن الكنوز الدفينة  والمتاجرة بالمخدرات والأجساد(زناء،شركات المناولة)؛
ذ/من الناحية العلمية:انتهجت سياسة ترتكز على استيراد الأجهزة والمواد والآلات مصاحبة بمنع اعادة انتاجها تحت قانون"حقّ الملكية الفكرية" أو السماح بإنتاج بعضها بالوكالة،مع غياب التحفيز على البحث التطبيقي المعمق وانعدام الآليات للحدّ من هجرة الأدمغة بتعلّة غلوّ الكلفة؛
ر/من الناحية الفكرية:اعتمدت سياسة تبليد الأذهان بالدفع الى مقاطعة الكِتاب(كتابة وقراءة)وهجر دور الثقافة والدفع المبطن نحو الشعوذة والتعصب الديني،ودعم مالي للمبتذل من الانتاج"الفني"،وتضييق الخناق على المعرفة العلمية والادبية والفلسفية؛
فتونس،هذه الـ"درّة المتوسطية"وسليلة امبراطورية قرطاج أعيق نموّها الاقتصادي بمنوال تنموي عمل على حدّ تطور قواها الإنتاجية وتشويه علاقات الانتاج بها وذلك بالتدخل السافر للسّلط المتتالية.لقد بسطت السلطة،خلال كل العقود،سيطرتها على مقاليد الحكم وعلى شبكة العلاقات الاقتصادية  والاجتماعية  والثقافية،باتباع طريقة زاوجت بين دور"حرس أمين"للمصالح الأجنبية عوض الحرص على مصالح الشعب،ودور"شرس"تجاه كل نفس وطني عوض الأسلوب السّلس.

2.3.1/منظومة السُّلط والمؤسسات وتركيبة المجتمع

عقب انتهاء فترة الاستعمار المباشر حرصت الدولة على القيام بدور اقتصادي واجتماعي خلال فترة الستينات أو ما يعرف بفترة"التعاضد"حيث أعطت الأولوية للتوازن بين القطاعات الثلاث:العمومي والخاص والمشترك،مع أولوية للقطاع الأول.لكن بعد فشل تجربة التعاضد توجهت الدولة التونسية نحو نمط الانتاج الليبرالي الذي يعرف بالانفتاح الاقتصادي وما تبعه من تقليص للدور الاقتصادي للدولة بخصخصة ودعم بعض القطاعات الاستخراجية  والتحويلية والخدماتية.لكن،مقابل تملص الدولة من دورها الاقتصادي أبقت السلطة على جانب التدخل الاجتماعي كرافد من روافد وجودها معتمدة في ذلك على سياسة تعديل السوق والتدخل لإسناد العائلات المعوزة وبعض الفئات ذوو الاحتياجات الخصوصية  وأبقت على نشاطها في ميادين التعليم  والصحة  والنقل  والسّكن.فخلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي،شهد الريف التونسي عملية نزوح كبرى جراء تهميش القطاع الفلاحي(فترة الستينات)وذلك برغم برامج التنمية الريفية المتتالية(برنامج العائلة المنتجة،مقاومة الأكواخ،التنمية الريفية المندمجة)للحدّ من تلك الظاهرة مقابل ازدحام حزام المدن بطالبي الشغل(فترة السبعينات)برغم ضعف العروض التشغيلية  وندرة المؤهلات الفنية  والعلمية. فالمعضلة الكبرى يمكن حوصلتها في جملة واحدة:" ريف مُقفر ومدن فقيرة ".
ثمّ جاءت حكومة مزالي(الثمانينات)التي قبلت بمحاور برنامج ما اصطلح على تسميته بـ"برنامج الإصلاح الهيكلي"،ففتحت أبواب البلد أمام رأس المال الأجنبى والشراكة للاستثمار والاتجار السلعي والفكري.فالأرضية التي هيئها"برنامج الإصلاح الهيكلي"لابتزاز ونهب ثروات البلاد فتحت الباب على مصراعيه للصراع السياسي داخل القصر الرئاسي وفي صالونات الجواسيس حيث كان السبق لزين العابدين بن علي وزمرته للاستيلاء على السلطة يوم 7 نوفمبر 1987،هذا الذي استباح خيرات البلاد مرتكزا على أجهزة مخابرتية/قمعية  و مافيا عائلية/ابتزازية  وبيادقهم المحليين خدمة لمصالح رأس المال المالي.
لقد ثبتت نبوئة من قال بما معناه أنّه اذا لم تقم الثورة الاجتماعية فستنتهي بمأساة سياسية،وكلّ ثورة سياسية تتبعها ثورة اجتماعية.هذا ما لم تقم به السلطة السياسية ولا معارضيها وهو ما يمكن أن يفسر جزئيا فشل المحاولات الاصلاحية والانتفاضات المتتالية.كلّ الأحداث السابقة لم تثن السلطة عن القيام بدورها"الشرس"وذلك بالتمادي في الخضوع الى املاءات الدوائر المالية العالمية ومن ورائها شركات متعددة الجنسيات.ما زاد الطين بلّة،مباركة العديد ممن يدعون الوطنية والثورية لهذا التّمشّي الليبرالي السّاحق للسيادة الوطنية،والمورّط المالي للشعب)مديونية(،والمؤطّر لسياسة العبث بالثروات الوطنية(خوصصة).لقد أصيبت قوى الانتاج بالشلل شبه التام مع فتح نافذة الخصخصة وكسر الحواجز الجمركية أمام السلع الخارجية وانتشار رقعة السوق الموازية.هكذا أصبحت البلاد مرتعا لأصحاب السلطة وزبائنهم من الأقرباء والأصهار وأبناء الفسق السياسي من أحزاب الموالاة الشريكة في المجالس النيابية والإستشارية،والبيروقراطية النقابية،ومرتزقة الجهاز الأمني،ولقطاء المؤسسات الاعلامية(وكالة الاعلام الخارجي والصحافة المأجورة(،ومثقفي القصور الرئاسية(أصحاب المناشدة).
في كل الحالات،لقد سجل التاريخ مآسي سياسية عند نهاية كلّ الحقبات،فمن أحداث الساحل التونسي وما تلاها من محاكمة سياسية سنة 1969،إلى احداث 26 جانفي 1978 ومحاولة الالتفاف على الاتحاد العام التونسي للشغل لتلجيمه،مرورا بانتفاضة الخبز سنة 1983 والحوض المنجمي سنة 2008 وأخيرًا وليس آخرًا ثورة 2010 ـ 2011 .فبعد كلّ مأساة اجتماعية وسياسية،قامت السلطة السياسية بالبحث عن كبش فداء للتغطية على فشل سياساتها،وعملت على فرش بساط سياسي بانفتاح ظرفي وجزئي على الأحزاب والمنظمات المهنية،وبذرت بعض الفتات الاجتماعي.ثم سرعان ما التفّت وعادت الى القمع والمحاكمات السياسية،وهو نفس السلوك المتبع بعد سقوط هرم السلطة(منذ 14 جانفي 2010)برغم دخول لاعبين آخرين لحلبة الفضاء السياسي،أصدقاء الثورة المضادة.أكّدت كلّ العلوم على اختلاف تخصصها على مبدأ التناقض الذي يلازم كل ّ حركة:لكلّ شيء نقيض.وأثبت تاريخ الشعوب،أنّ لكلّ ثورة نقيضها.فالثورة المضادة للحراك الاحتماعي انطلقت في عمليات التفافية منذ الليلة الفاصلة بين 14ـ15 جانفي 2011.فمحاولات الالتفاف عديدة ومتنوّعة،منها الالتفاف على فصول دستورية أو الايحاء بانفلات أمني أو بانقلاب عسكري أو إعطاء حقائب وزارية لعناصر عرفت بالفساد وأخرى محسوبة على المعارضة وكوادر تكنوقراطية مستوردة من وراء البحر وصولا إلى التلاعب بالمراسيم والتناطح حول فصول الدستور الجديد والصراع حول تركيبة الهيئات المؤقتة المفترض أن تكون مستقلة(قضاء،إعلام،هيئة الانتحابات)والاتفاقيات الثنائية التي تستبيح ثروات القطر.

في نفس الوقت،ازدادت حدة الحراك داخل كل الفضاءات،في ذهن الأفراد والجماعات،داخل البيوت ووسائل الإعلام،في الشوارع والمؤسسات.لكن السّيمة الرئيسية للحراك واضحة بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي باعتبار هموم الفئات.فالفئات المهمّشة وتلك العاملة في ظروف صعبة همّها اجتماعي بالأساس،وقد عبرت عن ذلك منذ انطلاق قطار الحراك الثوري في حركة سريعة وعفوية مشابهة لحركة كفّ اليد التي يكيلها الفرد لغريمه،رافعة شعار "ديقاج" و "واجب إسقاط النظام" وهو ما يعني كنس و تفكيك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى الوضع المزري الذي عرفته البلاد.فتكاثرت حركات الاحتجاج ذات المطالب الاجتماعية الواضحة والمستعجلة(الشغل للمعطلين،العلاج لجرحى الثورة،التعويض للمتضررين من الجوائح الطبيعية)والسياسية(محاسبة رموز الفساد،اقصاء التجمعيين من الحلبة السياسية(والمالية)عدم خلاص أو جدولة الديون الخارجية،استرداد الأموال المنهوبة،مصادر القروض المالية( والاقتصادية(دفع الاستثمار)،والأمنية(محاسبة القناصة،حل شبكة البوليس السياسي).جوبهت جلّ هذه الحركات المطلبية بالتنصل الحزبي من الوعود التي أعطيت خلال الحملة الانتخابية وبالقمع الأمني والمقاضاة من طرف السلطة الحاكمة.في الجانب الآخر تحركت قوى أخرى رافعة شعارات سياسية وحقوقية باحثة عن مساحة أفضل للحريات العامة والفردية،شعارات تتخللها بعض الفواصل من المطالب الاجتماعية غايتها مهنية أو لربح أصوات الفئات المحرومة والمهمّشة.كما رمت بعض الأحزاب بدلوها في الحياة الجمعياتيّة قصد محاصرة بعضها(جمعية القضاة،جمعية الصحافيين،جمعية النساء الديمقراطيات)واستقطاب البعض الآخر(جمعية المعطلين عن العمل،جمعية شهداء وجرحى الثورة)وبتكوين جمعيات ذات الشأن التنموي والاجتماعي.ما يعوز هذه الفئات الأخيرة هو انعدام الإرادة الحقيقية لتغيير النظام وغياب الجرأة في النقد والنقد الذاتي لتصحيح المسار.كما أنّها لم تستوعب بعد،أن أولى الخطوات في اتجاه التأسيس لمجتمع أهلي تتمثل في تفكيك منظومة السّلط التقليدية،وكيفية تسيير المؤسسات الحكومية والخاصة،وصياغة تشاركية لاستراتيجية هادفة لاستغلال أمثل للثروات وحافظة للكرامة الوطنية وضامنة لسيادة الشعب على ثرواته.
لكن،لازالت القوى المهمّشة عصيّة على التّلاعب السّياسي وهي في انتظار كلّ من يبرمج ويخطّط لسدّ وصدّ المسار الثوري.بعض الأمل يراود القوى الحرّة في امكانية قيام بعض القوم،من أحزاب وأفراد،بعملية نقدية والرّجوع الى العمل على مجاراة الحراك الذي رسمته في شعارات واضحة وجلية،من بينها شعار يختزل طموحات قصيرة ومتوسطة المدى:"شغل،حرية،كرامة وطنية"وآخر يختصر الهدف الاستراتيجي:"الشعب يريد إسقاط النظام".لكن كيف السبيل الى تحقيق تلك الطموحات في عالم يحكمه أباطرة المال عبر مؤسسات أخطبوطية خانقة ؟ هل يمكن انجاز منوال تنمية بديل خارج نسيج الكوكبة وفي إطار العولمة ؟ كيف؟

ـ2ـ الآفاق والاقتراحات:المنوال البديل

يعتبر الكثير أنّ هذا العصر هو عصر الانتفاضات الشعبية لفك طلاسم الماسكين بالسلطة والطامحون إليها.كثيرا ما يستعمل هؤلاء طلسم التداول السلمي على السلطة والديمقراطية التمثيلية،وطلسم المال(سياسة نقدية)التي هي أسرع فتكا باقتصاديات البلدان،وطلسم التقنيات العصرية(تجارة الكترونية،اعلام،اشهار)الهاتكة لحرية الإنسان،وطلسم الأخلاق الدنيئة(رشوة،تبييض الاموال،سياحة جنسية،تجارة المخدرات(.فعوض العلوم لدقة إنتاجها وعمق بحوثها(طبيعية،سوسيولوجية،تاريخية،فلسفية)يستحضر أباطرة المال ووكلائهم المحليين طلاسم مخزّنة طيلة قرون في قوارير دينية لتحييد وجهة الصراع،من صراع اقتصادي واجتماعي الى مزايدة دينية وايديولوجية،مزايدة للتلهية لا غير باعتبار انتفاء عناصر وجود هذا التناقض أصلا.المصيبة،أن مفعول هذه الطلاسم أثّر في دعاة الرجوع الى"الأصول"ودعاة التقدم الى"الحداثة"على السواء. كيف؟ لماذا ؟ لأن البعض حسبه سجّأد سحري يسمح بتجاوز حدود الزمان والمكان،والبعض الآخر خاله أكسير الحياة السياسية ضامن للديمومة.لكن هناك صنف ثالث عارف بمكونات الاكسير وتأثيراته وأدرى بركوب السّجاد وأريحيته،ويسعى لبيع الإثنين لكل طامح لتسلق سلّم السلطة،خدمة لأباطرة  المال  و لو لبعض الوقت.هذا الصنف الثالث يتمثل في المنظومة الكونية التي ترزح تحت حكم رأس المال المالي عبر مؤسّسات أخطبوطية مختصّة،منها السّياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي،كما أنّها متمكّنة بعديد المؤسسات المشابهة على المستوى الاقليمي والقطري.هذه المنظومة تملي خططها على الحكام والسّاسة مباشرة أو عبر تنصيب عملاءها  التكنوقراط في كلّ المجالات،ضاربة بذلك استقلالية وسيادة الدّول ومضيقة مجال تدخّل المؤسّسات الحكومية.
إنّ نمط الانتاج المملى من طرف هؤلاء لا هدف له غير الرّبح السّريع،مهملة حقوق الأجيال القادمة في الثروة،داعية لاستغلال فاحش للموارد المتاحة بما فيها الموارد البشرية.فالإنسان لدى هؤلاء بضاعة للبيع والشراء،وقيمته جزء من قيمة البضاعة المنتجة.باختصار،جشع هؤلاء جعلهم لا يعيرون اهتمامًا لرأس المال البشري والطّبيعي والمادي وغير المادي(المعارف،التكنولوجيا)إلاّ من خلال أهمّيته في تراكم رأس المال.لتفادي شبكة المنظومة الكونية والتأثيرات السلبية يجب إعادة النّظر في منوال المنظومة بتركيباتها المتعدّدة(مؤسّسات مالية،انتاجية،تمثيلية سياسية،إعلامية،قضائية(،وفي كيفية استغلال الموارد المحدودة كميّا،المتجدّدة منها والفانية،وصيغ توزيع الثروة عالميا،وإقليميا وجهويا.إنّ التّفكير في إعادة صياغة منظومة جديدة ضروري،بحيث يكون العيش الكريم للإنسان هدفها،وحسن استغلال الموارد عمودها،وحفظ البيئة - بالمعنى الواسع للكلمة - أساسها،والحوكمة التشاركية وسيلتها.إعادة النّظر هذه لا يمكن فصلها عن الدّور الجديد الذّي يجب أن يلعبه المواطن،ويمرّ ذلك من خلال تغيير موقع المواطن داخل المنظومة الجديدة.فمن الأولويّات التّي يجب البحث فيها إعادة النّظر في مفهوم المواطن والمواطنة(حقوق،واجبات)وكيفية تفعيل ذلك حتى نستشفّ الموقع والدّور الممكنين.إنّ ما سبق ذكره يمثّل إحدى المواد الأساسية التّي من خلال إعادة التّمحيص فيها للبحث عن البدائل الممكنة الواجب سلوكها لصياغة دستور البلاد.فالتّطارح حول هوية الدّولة واستقلالية المؤسّسات(قضاء،إعلام)ومنظومة السّلط)تنفيذية،تشريعية،قضائية(وحرّية المواطن)دينية،فكرية(وحقوق الفرد (صحّة،تعليم،تنقّل)والواجبات،كلّها نابعة من تصوّر أشمل لمفهوم الدّولة الذي يفرض التذكير به:
  • كمجال حياة،بما فيه من موارد وكيفية استغلالها وتسويقها وتوزيع قيمتها المضافة؛
  • كشعب،له قواسم مشتركة كما له من الطّموحات المختلفة؛كلّ حسب موقعه الاجتماعي ومفهومه للإنتماء،وهي إحدى الأسس الرئيسية للعقد الدّستوري؛
  • كسلطة تسهر على حماية المجال والمواطن بالرّجوع الى الدّستور المصاغ.
لغاية التبسيط،يمكن اتباع منهجية بسيطة تكمن في حوصلة مفهوم الدولة في جداول تشمل العناصر المكونة ومجال نشاطها الجغرافي والمؤسساتي مع توضيح لوظائفها التي سيقع التعمق فيها أكثر لاحقا

وجود الدولة يتمظهر من خلال ممارسة السلطة السياسية ضمن معايير وهياكل محددة في علاقة عضوية بعملية انتاج وسائل العيش الكريم وتوفير المرافق لحياة لائقة وتحفظ انسانية الإنسان.يلخص أغلبية المفكرين أهمّ وظائف الدولة فيما  يلي :
ü      تأسيس هياكل الدولة؛
ü      التحكم في استغلال الموارد الطبيعية والبشرية؛
ü      الحرص على السيادة الوطنية؛
ü      توفير الأمن والاستقرار؛
ü      الاحتكام الى القانون.

ـ1.2ـ الهدف الاستراتيجي : إسقاط النظام

رفع التونسيون شعار"الشعب يريد اسقاط النظام"وجاراه في ذلك عدة شعوب في جل أنحاء المعمورة،لكن ساد اللّبس حول مفهوم"النظام"وحول المهام الفعلية لتجسيد هذا الشعار الإستراتيجي وهو ما استوجب توضيح مقتضب للمفهوم لإدراك المهمات والأدوار المناطة بعهدة رافعي الشعار.فيمكن اقتضاب تعريف النظام بكونه مجموع المنظومات المكوّنة للدولة في علاقتها بعضها ببعض وفي علاقتها بالمحيط الخارجي.والمنظومة تعرّف بكونها جملة الآليات والميكنيزمات التي تحكم العلاقة بين مكونات وحدة ما.أمّا عن جدواها وديمومتها فتكمن في العلاقة العضوية ونسبة تجانس وتناسق الآليات من ناحية،وكيفية تفاعلها مع المحيط الخارجي من ناحية أخرى.وما الحديث عن طبيعة النظام)ملكي،تيوقراطي،ديمقراطي،برلماني،رئاسي،عسكري،مستعمر(إلا نعوت تابعة لطبيعة المكوّن المهيمن على العلاقات والآليات التي تحكم مختلف المؤسسات المكونة للدولة.فالعلاقات على اختلاف أنواعها ودرجة تشابكها تلفّ مختلف المنظومات التالية:

ü      الطبيعية/المادية/البيئية؛
ü      الأخلاقية/الدينية/الفلسفية؛
ü      التربوية/الأدبية/العلمية؛
ü      الإنتاجية/التوزيعية/الاستهلاكية؛
ü      الثقافية/الترفيهية؛
ü      التشريعية/القضائية؛
ü      المؤسساتية الاستشارية/التقريرية/التنفيذية.

يكمن هذا الهدف في الاستجابة لشعار"الشعب يريد إسقاط النّظام"الذي رفعته جل شعوب العالم فيبقى رهين الاجابة النظرية والعملية على الأسئلة التالية
ü      أيّ دور جديد لمواطني القرن 21)المنتج،المستهلك)في عملية إعادة توزيع الأدوار الاقتصادية(إنتاج،تسويق،توزيع الثروة)والتنظيمية(مؤسسات إنتاجية،مؤسسات تسييرية وتقريرية)والسياسية(هياكل صياغة صنع القرار المحلي،الجهوي،الوطني،الاقليمي والعالمي( ؟
ü       أي الطرق هي أمثل لاستغلال الثروات المحدودة والقابلة للفناء)بترول،فحم حجري،مواد نووية(؟
ü      هل يكمن بديل العولمة في الانزواء والانغلاق على الذّات باسم الوطنية والقومية،أم في التّفتّح على العالم(لبّ العولمة( لكن بآليات محلية واقليمية وكونية جديدة ؟ ما هي و كيف ؟
ü      هل توجد امكانية التوفيق بين مصالح الإنسانية المتشابكة والمتناقضة في ظلّ العولمة ؟
ü      هل أنّ سياسة الانتاج العمودية والمعتمدة على تركيز الوحدات في البلدان رخيصة اليد العاملة وسخية الامتيازات المالية والجبائيّة هي الحلّ لخلق مواطن الشّغل و نموّ الدّخل الوطني الخام للبلدان ؟
ü      هل من الجدّيّة المحافظة على نفس التعامل المؤسساتي محليا وجهويا وعالميا دون الأخذ بعين الاعتبار لدور المستهلك الصناعي والفردي للمواد المنتجة بصنفيها المادي وغير المادي؟

إن تغيير المنظومة رهين حراك جماهيري عالمي،بدت بوادره في الأفق،يهز أركانها ويؤسس لحياة سلمية وسليمة تعمر الكوكب الأرضي.إنّ المطلوب قوة ضغط كونية لتوجيه البحث العلمي في ما يفيد التنمية البشرية والبيئية عوضا عن الإسراف في البحث عن منظومة شمسية ثانية وعلى هدر الأموال لتطوير الأسلحة الفتاكة أو البحث على احتكار تصنيع المنتجات الاستهلاكية الاساسية(حليب،لحوم).القرن 21،هو بداية للعمل إلى جانب المجتمع الأهلي العالمي لغرض تشكل مؤسسات واستحداث آليات تمويل وانتاج وتبادل تتماشى مع روح العصر التضامني والسلمي،آليات تقطع مع الاستعباد المالي وسوء التغذية والمجاعة والأوبئة.كلّ هذا يستوجب التفكير في نوع جديد من الفاعلين وصياغة منظومة جديدة حيث تتقاطع)أفقيا وعموديا)مصالح المحلات والجهات والأقاليم والدول،ويكون للجهة عن طريق منظومة سلط ومؤسسات اهلية يكون لها دور ريادي في العمل التنموي الشامل والمندمج.يؤكد كلّ المفكرين والمؤرخين باختلاف المشارب الفكرية والفلسفية على أنّ الصراع حول ملكية الثروة وكيفية توزيعها وشكل ملكية وسائل الانتاج هي العناصر التاريخية المحركة للمجتمعات البشرية منذ العصور الغابرة،وعلى أنّ القوة المادية والبشرية هي الفيصل الحاسم لترجيح الكفة لصالح فئة أو فئات اجتماعية دون أخرى.كما أنّ الثورة الشعبية هي استحواذ الشعب على الثروة وابتداع تدابير تشريعية ومؤسساتية وتمويلية جديدة تقطع مع أساليب الاستحواذ على الثروة من طرف أقلية،أي منوال تنموي بديل مبني وفق حاجيات أغلب الفاعلين الأساسيين(شرعية)وهادف الى تلبية طموحات الأغلبية(ديمقراطية).

ـ2.2ـ الأهداف المرحلية 
كثرت النقاشات حول طبيعة الدولة المرتقبة،عن مكوناتها المؤسساتية ووظائفها في ظلّ تحولات عالمية شملت كل الأصعدة(مؤسسات انتاجية ومالية،تسويق سلعي ومعرفي،تبادل ثقافي،تقاسم الأدوار لحماية البيئة والثروات الطبيعية الكونية،آليات ادارة الأزمات بين الأقليات والدول...الخ.(.لهذا،بعد التعريف السابق بمفهوم بالدولة وجب التذكير ببعض وظائفها الأساسية المرتبطة بطبيعتها.باعتبار أنّ ملكية وسائل الإنتاج عرفت نمطين إثنين(مشتركة وفردية)،يمكن اعتماد النظريتان الأكثر شيوعا للتعريف بوظائف الدولة.يؤكد منظرو الرأسمالية والليبراليون الجدد على أنّ الفرد هو الهدف،وعلى أنّ الملكية الخاصة مقدسة،وعلى أنّ وظائف الدولة تنحصر في الجوانب التشريعية،التنفيذية،القضائية،الأمنية(داخلي وخارجي(.فيمكن اختزال أسس النظام الرأسمالى في ثلاث جوانب:أخلاقية(حرية الفرد،حرية المنافسة)،اقتصادية(حق تحقيق المصلحة الخاصة،قانون العرض والطلب)وعلمية(البقاء للأصلح(.ويجدر التذكير أنه لئن كان الانسان مدنيا بطبعه(كما يقول ابن خلدون)فان الدولة الدينية،التي ترتكز على البعد الأخلاقي وتعتمد التسلط الفردي باسم"الخليفة"والفئوي بدعوى"الشورى"،ليست من طبع الانسان فضلا عن أن أنها لا تستجيب لمقتضيات الضرورة التاريخية.في حين يعتبر خصومهم على أنّ الجماعة هي الهدف والملكية الجماعية لوسائل الإنتاج هي الأداة.أما مجال تدخل الدولة فهو شامل لكل المجالات والهدف الأسمى يكمن في تحقيق العدالة(من لكلّ حسب عمله إلى لكلّ حسب حاجته(والتخطيط المركزي هو الوسيلة.

إنّ الصعوبات التي لقيها كلّهم حتمت على الحكومات ادارة التناقضات الداخلية وتأثيراتها السلبية مع تكفل المنظرين بمختلف اختصاصاتهم بالتشريح والبحث عن الحلول،من ناحية أولى،والتشهير بالنظام المقابل بكشف عيوبه،من ناحية ثانية.اصطفّت فيالق الباحثين والسياسيين والإعلاميين والأمنيين وراء علماء الاقتصاد/السياسي للقيام بتلك المهمات،معتمدة في ذلك على مرجعيات منظري القرون السابقة والأساليب المخابراتية القذرة،ضاربين عرض الحائط التحولات الحاصلة حيث تقلّص المجال الجغرافي بالنظر الى سرعة المواصلات والاتصالات والمعرفة،وارتفع سقف طموحات الشعوب.أمام هذه التحولات وجب التساؤل عن خصائص الدولة المرجوة في عصر العولمة هذا؟ما هي الآفاق أو الأبعاد الممكنة؟

      الدولة الاجتماعية:  الدولة هي مجموع سكان مقسمين إلى فئات أهلية لها عدة قواسم مشتركة(الشعب)،تعيش في فضاء جغرافي محدد يحتوي ثروات متعددة(وطن)،متفقة على تصريف شؤونها من خلال مؤسسات محدثة للغرض(سلطة)للتشريع والتنفيذ وحفظ الأمن الداخلي(الاستقرار)والدفاع ضد الدخلاء(السيادة).باعتبار أن الانتماء الفئوي للأهالي متحولا(غني يصبح فقير،فاقد ملكية عقارية يصبح باعث عقاري،والعكس بالعكس)والفضاء الجغرافي متغيرا،إذا لم يكن أفقيا(احتلال مباشر،توسع تجاري خارجي،ديون مكبلة)فهو عمودي(اكتشاف واستثمار للثوات الباطنية،مثل المناجم والمياه الجوفية؛والفضائية كالطاقة شمسية والهوائية)،كذلك المؤسسات الحكومية وغير الحكومية فهي متغيرة باعتبار تطور الحاجيات والوظائف.من وظائف الدولة التدخل لخلق توازن اجتماعي عبر نافذة توزيع الثروة،فهي بالتالي لاعب محوري في ابتداع آليات لتمكين الشعب من السلطة على ثرواته وهو جوهر مفهوم الديمقراطية.من هذا المنطلق تبرز بعض الآسئلة: هل هناك دولة تونسية؟ هل يعيش أهالي تونس في فضاء ديمقراطي؟ هل تستجيب منظومة المؤسسات الحالية لحاجيات الأهالي؟ هل هناك من البرامج المقترحة،حكومية أو غيرها،من يؤسس إلى الديمقراطية الحقة؟ لمن تعود مسؤولية التغيير والتطوير؟ للشعب من نافذة مقاربة تشاركية وأبواب مجالس أهلية بمفاتيح التشاور والمداولات المفتوحة،أم للأحزاب"النخبوية"و"الشعبوية"في كواليس القصور العاجية وفي مجاري مياه المقرات الأمنية وتحت سقف قبة باردو حيث المحاصصة في المجالس المغلقة؟
فالمجتمع الحالي يتطلب تفكيك وإعادة تركيب وفق نظرة لخصها أحد المفكرين(رضوان زهو)بإحدى المقالات:"المجتمع العادل لم يعد يخضع فقط لعمل الدولة وإنما أضحى يقوم،إلى جانب ذلك،على علاقات مؤسساتية،اقتصادية واجتماعية،ترتكز على معايير عادلة وتقوم على مبادئ ومرجعيات مشتركة،ترمي إلى بناء مجتمع عادل ومتضامن ومسؤول.حيث لم تعد الدولة المرجع الوحيد للمجتمع العادل،بل ظهرت إلى جانبها حركة مجتمعية واسعة،أكثر تنظيما وأقوى تأثيرا،تهدف إلى جعل التصرفات الاقتصادية أكثر عدلا وإنسانية.هذه الثنائية في الأدوار وفي المسؤوليات بين الدولة والمجتمع المدني،يمكن اعتبارها أساس الدولة الاجتماعية اليوم.كما أن المسؤولية الاجتماعية لا تقتصر على الدولة والمجتمع المدني فحسب،وإنما تتعداهما،لتشمل المدخرين والمستثمرين،عندما يتحول الادخار إلى استثمار في القطاعات الأقل مردودية(في الثقافة وفي الخدمات الاجتماعية(أو إلى قروض لصالح الفئات الفقيرة(من خلال مشاريع مدرة للدخل)...إن التنمية ليست مجرد عملية إنتاجية لتوفير المواد والسلع والخدمات،وإنما هي أكبر من ذلك،تبتدئ بسد الحاجة في الشغل والسكن والصحة والتعليم،وتنتهي عند تحقيق الأمن السياسي والمشاركة في الحفاظ على التوازن البيئي واحترام القانون والمؤسسات".
حيث ما كانت المصلحة العامة غائبة،والقانون جائر،والمواطن مغيّب،والثروات تنهب لن يستقيم حال المجتمع الأهلي ولا الدولة.وما دام القائمون على السلطة يمتنعون عن تشريك واسع للمواطنين داخل هياكل مدنية تقريرية جديدة ومبتكرة،وما دام المشرّعون يتناسون القوانين العادلة التي تضع ثروة البلاد بين أيدي المواطنين)تسيير،استغلال،التسويق،التوزيع العادل لفائض الإنتاج(،و ما دام الإداريين عجين طيّع فى يد السلطة التنفيذية لن ينتهي الصراع ولن يُمنع الشعب من البحث عن البديل.
فالحكومة الحالية والطّامحين إليها بانتخابات قادمة يجب أن يقدّروا حقّ المواطن والجهات في التنظم داخل هياكل محلية وجهوية ووطنية ذات وظيفة تقريرية وتنفيذية لتسيير الشأن العام داخل المجال الجغرافي الذي يعود إليها بالنّظر.كما أنّ إعادة النّظر في منوال التنمية ضرورة ومفصل تاريخي وفاصل بين من يؤسس لأهداف الثورة وبين من يبحث على الالتفاف عليها.منوال تنموي بديل بحيث تصبح الثروات الطبيعية والبشرية بين أيدي أهل البلاد ولصالح الشعب،وذلك عبر صياغة قوانين جديدة تسمح بالاستثمار الوطنى)تشجيع المبادرة الفردية(ويكون للدولة النّصيب الأوفر)دور الدولة الاقتصادي(.منوال دافع لديناميكية السوق الوطنية وخلاّق للثروة وهادف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الاساسية.من الضروري أيضا أن تتحمّل الدولة مسؤولياتها الاجتماعية بإعادة النظر في المنظومة الجبائية وابتكار آليات أخرى لاستخلاصها واستثمارها(جباية محلية وجهوية،ضريبة على التلوث البيئي،ضريبة على الاستهلاك المفرط للطاقة والمياه(،وتحديد تشاركي للأولويات الاجتماعية.إنّ اعتماد البعض على الجانب الأخلاقي(مقاومة الفساد والرّشوة،الدّعوة إلى التّحلّي بالأخلاق الحميدة)،واللّهث وراء المانحين الماليين والمستثمرين الأجانب)دول ومؤسسات الإقراض العالمية(لا تفي بأهداف الثورة ولن تزيد إلاّ نهبا للثروة.فالسيادة عنصر حضاري،إن انتفت فالدولة آفلة لا محالة،فالسيادة ليست سلعة للتسويق ولا يمكن تقسيمها وتقزيمها أو الاتّجار بها.لا ينكر أحد أهمية الإنخراط في المنظومة العالمية لكن بغير الآليات والمؤسسات القائمة.فهذه الأخيرة نذرت لخدمة رأس المال والمؤسسات الراعية له.فالمؤسسات الحالية مبنية على أسس هرمية،حيث يكون الرأس المدبر بدول"المركز"محتكرة المال والعلوم،ومنشآتها الأخطبوطية التابعة بدول"المحيط"حيث قوى العمل الرخيصة والتسهيلات الجمركية والمالية والجبائية.

لا يمكن فهم وإدراك وظيفة الدولة العصرية مهما كانت نوعية النظام التي اختارت،وطبيعة العلاقة الدولية التي نسجت بدون وصف،ولو مقتضب،للوضع في مستواها الأرحب.فالوضع العالمي يتسم بما يلي:
ü      الشركات الاحتكارية هي محور الاقتصاد العالمي(استثمار،انتاج،تسويق،استهلاك)؛
ü      خضوع الدول لشروط المؤسسات الاحتكارية المجحفة؛
ü      خصخصة القطاع الانتاجي العام والقطاعات الخدمات الأساسية؛
ü      تهميش القطاعات المنتجة لحساب القطاع الخدماتي؛
ü      إقصاء الجهات المعتمدة على الانتاج الفلاحي؛
ü      تطور الزبونية واحتكار العصابات المحلية للقطاعات التي وقع التفريط فيها؛
ü      ارتفاع نسبة المديونية وخاصة الجزء الخدماتي للدّين منه؛
ü      الصراع المحتدم على مصادر الطاقة؛
ü      ازدياد كمّي لفئات المهمّشين والعاطلين والنّازحين؛
ü      تململ اجتماعي شمل كلّ الفئات وخاصة الشباب العاطل عن العمل؛
ü      تزايد وتيرة قمع الحريات(نقابي،حزبي،إعلامي،ثقافي)؛
ü      انحصار وظائف الدولة(تعديل السوق واحتواء الأزمات الاجتماعية(.

في ظل عصر  الكوكبة(Globalisation)،يمكن للمرء أن يبحث عن حلول من خلال الإجابة على جملة من الأسئلة الأساسية،منها:
ü      هل الدولة قادرة على استيعاب جميع الشرائح الاجتماعية ؟
ü      هل الدولة قادرة على القيام بالوظائف الاجتماعية التاريخية منها والجديدة ؟
ü      هل الدولة مستعدة للتخلي عن جزء من سلطاتها  لفائدة مؤسسات المجتمع الأهلي؟
يمكن الجزم أنّ الحلّ يكمن في إعادة الاعتبار لدور الدولة في مستوياته الاقتصادية والاجتماعية،وهي الدولة التي يمكن نعتها بالدولة الاجتماعية.ويقوم دور الدولة هذه على جملة من المبادئ والأهداف،ويعتمد على حسن التصرف في الموارد المتاحة،ويرتكز على جملة من الضمانات للتقليص من حجم المخاطر الداخلية والخارجية.
  • المبادئ:
  • المواطن شريك فعلي(فاعلون جدد)؛
  • الجهة محور كلّ عمل تنموي(مجال ذُو بُعد جديد وآليات ادماج بين القطاعات)؛
  • عقد اجتماعي مواكب للعصر؛
  • ثنائية التدخل في الشأن العام بين الدولة والمجتمع الأهلي.
  • الأهداف:
  • مجتمع عادل يقوم على مؤسسات اقتصادية واجتماعية مستحدثة؛
  • تنمية القدرات الفردية والجماعية و إتاحة الفرص والإمكانيات؛
  • توسيع دائرة الخيارات وتقوية الطّاقات(المشاركة،الحرية،الفاعلية)؛
  • التصدي إلى مظاهر العجز المختلفة(فقر،بطالة،قمع سياسي وثقافي(.
  • الضمانات :
  • حلّ جذري للتبعيّة والمديونيّة؛
  • ضمان الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛
  • ضمان الحرية العقائدية والإبداع الثقافي؛
  • تحقيق الأمن الغذائي؛
  • الموارد:   الزيادة في مخزون رأس المال المادي والغير مادي(الطبيعي،البشري،العلمي(.

  • البرامج: تحتاج التنمية البشرية إلى برنامج بنيوي طويل  ومتعدّد الجوانب.
  1. مادي:توفير المواد والسلع والخدمات مع اعتبار الجهة محور العمل التنموي؛
  2. ثقافي:المحافظة على التنوّع الثقافي ودعم الإبداع والتبادل؛
  3. سياسي:تشريك المواطن في البرمجة من الصياغة إلى التقييم مرورا بالمتابعة  والمراقبة؛
  4. أخلاقي:نشر القيم الإنسانية ومقاومة الفساد والمحسوبية.
  5. المقاربة:نشر ثقافة الحوكمة التشاركية والتقويم والمسائلة.

          لكن هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح: هل تمثل الدولة الاجتماعية هدف لمسار انتقالي أم خيار استراتيجي  ليبرالي؟ 

          تاريخيا،تمثّل أنماط الانتاج وتوزيع الثروة وتبعاتهما سبب بلايا البشرية والانتفاضات والاحتجاجات،كما يمثّل تحييد وإقصاء المواطن من صيرورة صياغة المشاريع وأخذ القرار سبب ضعف حسّ الانتماء الوطني.لقد كثر اللّغو حول ضرورة مراجعة منوال التنمية وأولويات الاستثمار،حيث تطارحت الرؤى بين الزوايا التالية:الأمن،البنية التحتية،الاستثمار والتشغيل.في حين يدافع البعض عن أولوية الزوايا الثلاث الأولى،تهاجم الفئات الأكثر تهميشًا)الشباب العاطل،الجهات الداخلية(انطلاقا من الزاوية الخامسة.لكن،ليتذكر البعض،أنّه من البديهي أن يكون محك الاستحقاقات تلك الشعارات الشعبية(لا النخبوية أو الشعبوية(،كما أنّه  من المنطقي أن تكون الشرعية للجهات  التي قامت بإرباك)لا إسقاط!(المنظومة السابقة.لئن  كثرت المزايدات،قبل الانتخابات،على الدور المحوري للمواطن في سيرورة صياغة الخيارات(المواطن المخيّر(،فقد وقع الاكتفاء بوضعه في زاوية المتفرج على سرك المحاصصة السياسية(المواطن االمسيّر وليس المخير)،وإن اعترض فالتنكيل اللفظي والجسدي في انتظاره.
          فالأطراف التي حكمت وتلك الطامحة الى السلطة لم تعد مرجعيتها القيم الإنسانية،برغم ادعاء الكثيرين ذلك،بل الى محاباة السلطة الكونية المتكونة من مجموعات جعلت من" وول ستريت"قبلتها،ومن تكديس المال كنه حياتها.أمّا عن الحكومات والمؤسسات فقد أضحت بيادق يحركها لاعبو البورصة وسارقو الثروات وفق استراتيجية وقواعد لا تمتّ للمصلحة في شيء،لا يعنيها غير مصالحها الجشعة الآنية،ضاربة عرض الحائط مستقبل الأجيال القادمة.فبعض هذه البيادق لا تطمح الى السلطة السياسية بل تدفع الأموال الى مثيليهم السياسيين والإداريين اللاهثين وراء الشهرة والمال(اقتصاديين،ماليين،اجتماعيين،صحافيين،فنّانين(،وإلى وكلاء عملاء يمررون سياستهم الأخطبوطية لابتزاز خيرات الشعوب.كما تمكّن أصحاب اليد العليا في عالم المال من تدجين المؤسسات العالمية التي كان من المفروض أن تلعب دور التوازن والتنمية العادلة عالميا،فأصبحت تشرع للابتزاز السياسي والاقتصادي،كما أضحت تقوم بأدوار متناقضة: تتبرع بالمواد الأساسية عند الكوارث وتبرّر تجويع الشعوب،تبني المخيمات للمشرّدين وتصمت عن قصفهم بالقنابل الفسفورية الحارقة،تشنّ حملات ضدّ التّسلّح التقليدي والنووي و تُدير الحروب بأسلحة تدميرية،تنشر ألف داء وداء و تتاجر بالأمصال والدّواء.

                الأولويات الاجتماعية:أن يدرك الجميع عمق شعار:" التشغيل استحقاق...يا عصابة السراق!".فالحراك الثوري يجد جذوره في عملية التّهميش والإقصاء الآلي للأفراد والجماعات التي اعتمدتها الحكومات المتتابعة.فهذه العملية الممنهجة أضرّت بالعملية التنموية في أبعادها الأربع:الاقتصادي،والاجتماعي،والثقافي والسياسي.لكن لازال البعض،على اختلاف مشاربهم الإيديولوجية،يعطون الأولوية للعمل السياسي بداعي أنّ مسك السلطة،في تركيبتها الكلاسيكية،يتيح للفاعلين بموقع أفضل للفعل في الحقول الثلاث الأخرى.زاوية هذه الرؤية التقليدية محدودة وغير مواكبة للقرن 21 حيث توجد أغلبية متعلّمة،طموحة وتمتلك المعرفة والمعلومة.فالرضوخ للإملاءات الفوقية التي قزّمت دور الدولة الاجتماعي،بدون مراعاة الخصوصيات المجتمعية،لا يمكن أن تؤدّي إلاّ الى مزيد من التّهميش وعدم الاستقرار الأمني والنفسي.فحاجيات المواطنين المعيشية،وخاصة فاقدي السّند العائلي وأصحاب الحاجيات الخصوصية والمهمّشين،في تزايد مستمرّ بحكم التزايد الديمغرافي وتطور نمط الاستهلاك والتلوّث البيئي. كما أنّ الشروط المجتمعية تطورت ليصبح التعليم والصحة والثقافة من العناصر المعتمدة في عملية الإدماج الاجتماعي.إذن،على منظومة السلط أن تأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات حتى يتسنّى توفير حقوق المواطن لضمان كرامته،ولن تتمكن من ذلك بدون استرجاع دورها الاقتصادي،عبر وضع اليد على الملك العمومي الإنتاجي والخدماتي،ولدورها الاجتماعي من نافذة مؤسسات الصحة العمومية والنقل العمومي ومؤسسات التمويل ومؤسسات الضمان والتضامن الاجتماعي .إن بات من الصعب استرجاع بعض المؤسسات التي وقع التفريط فيها،فلتفعّل منظومة السّلط بنود كرّاس شروط استغلال الملك العمومي وتطوّره في اتجاه تحميل المنتفعين الخواص للقيام بأعباء اجتماعية،وتشريك المجتمع الأهلي في العمل الاجتماعي.
           يمثل التشغيل أهم المطالب  الرئيسية وأكبر التحديات.فنسبة البطالة التي تعرفها بلادنا  أصبحت مرتفعة  خاصة عندما تتعلق المسألة بالشباب حاملي الشهائد العليا،وهي نتيجة  خيارات سياسية واقتصادية مرتجلة وظرفية فاشلة بالإضافة إلى عوامل موضوعية للتطور التكنولوجي  الذي قلص الطلب من الحاجيات إلى اليد العاملة الغير مختصة والأزمات العالمية المتتالية والركود الاقتصادي  العالمي خلال السنوات الأخيرة(نسق بطيئ(كما ساهمت عدة إشكاليات أخرى في تدهور الوضعية منها عدم الملاءمة  بين متطلبات السوق واليد العاملة المتوفرة ونظام التعليم والتطور الديمغرافي للسكان.وباعتبار أن البطالة أصبحت معضلة وظاهرة فان معالجتها تتطلب وقتا طويلا ورؤية  إستراتيجية  واضحة وبعيدة المدى خاصة وان التحولات  العالمية وهشاشة الاقتصاد القطري وتركيبة مجتمعه الاستهلاكي تزيد من تعقيد المسألة ويترتب عنها الآثار السلبية للبطالة المؤثرة والمدمرة كالإحساس  بالتهميش  وصعوبة الاندماج  داخل المجتمع  وتفكك الروابط الاجتماعية وإقصاء  شريحة منتجة  من الدورة  الاقتصادية لينتهي المطاف بفقدان ويوجد الأرضية المناسبة لانخرام المجتمع  والتصادم.لذا،فالمطلوب وصفة بها حزمة من المشاريع الآتية:
          ü      معالجة  اجتماعية ترتكز على إعانة ومساعدة طالبي الشغل في إيجاد عمل والإحاطة الاجتماعية بالفئات  الضعيفة خاصة بالجهات المحرومة وتشجيع  المجتمع المدني عبر الجمعيات التنموية  إضافة إلى إقرار  منحة بطالة؛
          ü      معالجة  اقتصادية تعمل على وضع الآليات العملية بالتشجيع على التكوين المستمر وتدخل الدولة للتشغيل في إطار الوظيفة العمومية والتخفيض في سن التقاعد وتشجيع الانتصاب للعمل المستقل وتشجيع الاستثمار  بالمناطق الداخلية؛
          ü      معالجة سياسية بتبني خطاب الصراحة والواقعية وتفعيل الحس الوطني لدى أصحاب رؤوس الأموال التونسيين بالمشاركة في النهوض بالبلاد وتقديم التضحيات دون معادلة الربح السريع والخسارة.
           فالتشغيل مرتبط أساسا بقوى الانتاج والحركة الاقتصادية التي تعتمد على معالجة البطالة بزيادة تدخل الدولة لتمويل المشاريع الكبرى مصحوبة بإجراءات عملية لدفع الاستثمار كالتخفيض في نسبة الفائدة ومنح الامتيازات الجبائية وتحمل الأعباء الاجتماعية...الخ.إلا أن هذه الإجراءات عرفت محدوديتها في ظل اقتصاد معلولم  وهي حلول تبقى ظرفية ومنقوصة في غياب معالجة مستديمة وتحديد إستراتيجية بعيدة المدى لمجابهة  هذه الظاهرة.فالعالم  اليوم يتحرك في منظومة تم إرسائها  من أجل تسهيل المبادلات التجارية بين البلدان وهو يمثل ركيزة النظام  الرأسمالي الذي  يدفع المؤسسات إلى اعتماد مؤشر القدرة التنافسية والعلاقة الترابطية  بين «السعر/ الكلفة»  بقطع النظر عن الجانب الاجتماعي داخل المؤسسة  أو المجتمع.
          التحديات المطروحة على الاقتصاد التونسي في نظام العولمة تكمن في انعدام المؤهلات والقدرة التنافسية  للمؤسسات.فهذه الأخيرة  مجبرة على مجابهة  الإشكالية القائمة  بأن تحسن  من قدرتها التنافسية في ظل ارتفاع كلفة العمل والضغوطات  الاجتماعية،إلى جانب منافستها  للبضائع المعروضة في السوق،خاصة الموردة من  الخارج دون حماية بالإضافة إلى عدم التحكم في طرق التوزيع  والسيطرة عليها  وانتشار رقعة السوق الموازية.
           في ظل  هذه الوضعية  تصبح المراهنة  على الاستثمار لإنتاج مواد  تونسية وتسويقها  داخليا  أو خارجيا  بالجودة المطلوبة وبأسعار تنافسية صعبة حيث في ظل منافسة شرسة  وفي ظل غياب تأمين الدولة لحماية السلع التونسية مما قد يعطل آلة الانتاج ويفعل آليات التفقير وانحدار المقدرة الشرائية وتزايد المديونية وما تخلفه هذه من مظاهر اجتماعية سلبية كاستفحال الفساد والرشوة.
           هل يجب التريث حتى تدفع المنظومة العالمية إلى التضامن وإلى إيلاء الجانب الاجتماعي القدر الكافي لمجابهة الفقر والبطالة؟ فالكوكبة هي التحدي الحقيقي للاقتصاد القطري في ظل الطلبات المتزايد للمواطن وتدهور قدرته الشرائية والإغراءات الكثيرة(إشهار)وفي ظل ارتباط اقتصادنا بالدول الأوروبية  وتهميش بعض القطاعات المنتجة  كقطاع الفلاحة مقابل التعويل على الخدمات والصناعات الهشة الباحثة عن الربح السهل والسريع،التي تعتمد على رخص كلفة اليد العاملة وعلى الآليات التحفيزية المالية والجبائية وعلى سياسة العصا الغليظة.
           إنّ بداية الحل هو إيجاد الثقة والتأسيس لخطاب عقلاني ومصارحة بين كافة فئات المجتمع.هل من الممكن التضحية والتراجع في المكاسب الاجتماعية التي تحققت(التقاعد والحيطة الاجتماعية وصندوق  التعويض)؟ هل هناك مجال للتراجع في مجانية الصحة والتعليم لتخفيف العبء عن الدولة؟ الحلّ يكمن في استنباط منوال تنموي بديل تكون المواطنة والتضامن والمصلحة العامة هي دعائمه الأساسية،وهو ما يدعو إلى التفكير جيدا وفتح  باب الحوار داخل مكونات المجتمع لإعادة صياغة التصورات الجديدة في إطار العولمة،من قبيل التوجهات العامة المتمثلة في :
          ü   العمل على الترفيع في الاستثمارات الأجنبية المباشرة على قاعدة تناصف الربح بتركيز مؤسسات مشتركة تمكن من إحداث مواطن شغل وتضمن ترويج المنتوج في الأسواق الخارجية عوضا عن اللجوء إلى المديونية؛
          ü   مراجعة  سياسة الخوصصة واعطاء الدولة الدور الرئيسي كدافعة للاستثمار ودعم المؤسسات الوطنية الكبرى على الانفتاح على الأسواق الخارجية الاقليمية منها والعالمية مع تفضيل المحور"جنوب ـ جنوب".
          ü   جعل الأمن الغذائي أولوية الأولويات بمراجعة الهيكلة الحالية لقطاع الفلاحة والعمل على إرساء فلاحة تعتمد على المخزون المعرفي المتراكم(ضيعات متوسطة وصغرى)وعلى التكنولوجيا الحديثة(ضيعات كبرى)باعتماد المقاربة المنظوماتية لتأسيس فروع انتاجية بالجهات(انظر النص المصاحب)بالاعتماد على المتوفر من المعلومات(الخارطة الفلاحية،احصائيات)،ومراجعة آليات التمويل القطاعي،ودعم مراكز البحث العلمي وتعميمها داخل الجهات الداخلية خاصة التي تتوفر على أراضي خصبة وتنويع المنتوج مع تركيز أقطاب صناعية  تعنى بالمنتوج الفلاحي وتحويله(الصناعات المعملية،التعليب)وتتكفل الدولة بمعاضدة المجهود الوطني في البحث عن الاسواق وترويج المنتوج في اطار علاقات الشراكة الدولية.
          ü   دعم المباردة الفردية والتعويل على إحداث المؤسسات الصغرى والمتوسطة وتفعيل دور البنوك التنموي وتوفير الضمانات اللازمة للإحاطة بالباعثين  الجدد واعتماد التمويل الجهوي والتضامني ودعم المؤسسات من قريب.
          ü   ايلاء الجانب البيئي العناية اللازمة في علاقته بقطاعات الانتاج باعتبار محدودية الموارد الطبيعية ببلادنا.لهذا يجب اعتماد المقاربة التشاركية  لتحقيق النمو والتطور من ناحية والمحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من ناحية أخرى ضمانا لحق  الأجيال القادمة تأخذ بعين الاعتبار البعد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.وهو ما يدعو إلى معالجة الإشكاليات البيئية المطروحة حاليا في قطاعات الإنتاج كالفلاحة والصناعة والسياحة والنقل.
          كل هذه المقترحات يمكن أن تدخل ديناميكية بديلة تمكن من دفع عجلة النمو وإحداث مواطن شغل جديدة في مجالات جديدة وذات مردودية عالية.هذه الحزمة تستلزم إرساء مؤسسات وصياغة تشريعات قصد:
          • تحسين الخدمات الإدارية في كافة المستويات مركزيا وجهويا ومحليا مع تمكين الادارة من كافة مستلزمات العمل وتوفير مناخ اجتماعي يرتكز على التسيير التشاركي(مجلس مؤسسة،جمعية عمومية)؛
          • دعم التكوين والرسكلة في كافة المستويات الادارية؛
          • إرساء منظومة لمراقبة ومتابعة وتقييم  الأداء الإداري؛
          • التشجيع على المبادرة الحرة داخل الإدارة؛
          • تبسيط اجراءات الإحداث والانتصاب للعمل المستقل بالجهات الداخلية؛

             المقاربة التنموية :منذ بداية الثّمانينات،وبأوامر المؤسّسات الماليّة العالمية عبر بوّابة برنامج الاصلاح الهيكلي،انحصر دور الدّولة تقريبا في تصفية القطاع العام المنتج والعمل على التّكفّل بانجاز البنية التحتية وصياغة آليات تحفيز مالية وجبائية بتعلّة خلق الظّروف اللاّزمة لاستقطاب رأس المال الدّاخلي والأجنبي،وبالتّالي دعم الاستثمار و تفعيل آليات التّشغيل والسّوق الاستهلاكية والرّفع من مستوى العيش.لكن الآن،فقد بات غير خاف على أحد النّتائج الكارثيّة لتلك السّياسة من تهميش،وبطالة،وظروف عمل وسكن مزرية،وتدنّي لمستوى العيش،وبنية تحتية غير جذّابة للاستثمار،وتبييض الأموال...الخ.كما أصبح الاستثمار في البنية التحتيّة بمثابت"الحصان"المفضّل لكلّ حكومة تريد"تهريب و نهب المال العمومي"وآلية من آليات تخريب الاقتصاد! إنّ مهمّة أصدقاء الحراك الاجتماعي من المهمّات التاريخية المفصلية(النوعية)والصعبة ذات المنعرجات الخطيرة،ويتطلّب هذا  تظافر جهود عديد القوى الحرّة وطول النّفس لتحقيق الأهداف المنشودة،والتي يمكن حوصلتها فيما يلي:إنّ الهدف الاستراتيجي لكلّ عمل تنموي يكمن في رغد العيش لكلّ المواطنين.هذا الهدف السّامي يمرّ عبر تحقيق نتائج ايجابية في عديد الميادين وبكلّ الجهات،وذلك لن يتمّ إلاّ من خلال انجاز أنشطة متكاملة ومندمجة تقطع مع التّهميش الفئوي والجهوي مع حسن ترتيب الأولويات والشّفافية في التّصرّف في الموارد المادية وغير المادية إلى جانب تشريك فعلي للمواطن في تحديد الحاجيات وصياغة البرامج التّنمويّة.فمنوال التنمية السابق عرف بانعدام توازنه،كما سبق ذكره،وبالتالي أصبح من الأولويات إعادة النظر بصياغة منوال جديد يهدف الى جعل كلّ تونسي وكلّ جهة منتج ومستهلك في ذات الوقت،وهو ما يعنيه شعار "لا إقصاء ولا تهميش... الشعب يحب يعيش".فالمقاربة السياسية التي تقصي المواطن بدعوة انعدام النّضج العلمي والفكري والسياسي لتمرير التوجّه الإقصائي باعتماد الديمقراطية التمثيلية،والمقاربة الاقتصادية التي تعتمد على المتوفر من الآليات،والمؤسسات،وتتجاهل البعدين البيئي والتضامني لا يمكن أن تكون في مستوى شعارات المرحلة.في الحالة التونيسية،الإنفاق في القطاعات الانتاجية الصغرى والمتوسطة أولى من الاسراف على البنية التحتية،مع استثناء الوحدات الخدماتية المبرمجة)الصحة،التعليم،الثقافة،الرياضة،الري،التنوير(.فإن كان الاستثمار  في البنية  التحتية ضرورة،لكنّه لا يفي بحاجات الشباب العاطل والمعطّل ولا من أولويات الجهات الداخلية.من يسوّق لأولوية البنية التحتية عليه أن ينظر لسيرورة نمو ضيعة الأجداد،والقرية التي يسكن،والحيّ الذي يقطن،والمدينة التي بها ترعرع،عليه بقراءة تاريخ الحضارات.فالبنية التحتية انجاز يخدم مصالح الميسورين،من كبار موظفي الدولة باعتبار كثرة التنقل لأداء المهمات الرسمية والخاصة،والصناعيين لإنجاز مشاريعهم الخاصة التي ليست بالضرورة وحدات تشغيل لليد العاملة،وكبار التجار وسماسرة المواد الأولية،وكبار الفلاحين أصحاب المنتوج المتنوع والوافر.الاستثمار في البنية التحتية غير الخدماتية مكلفة جدّا،وأوّل المنتفعين به هم أصحاب المقاولات الكبرى التي ترعرعت في ظروف مشبوهة.كما أنّه من الصعب متابعة ومراقبة آليات صرف الأموال المرصودة للبنية التحتية التي كثيرا ما تصرف في غير محلّها)رشوة،فوترة مضخمة،محسوبية،انجازات مخالفة لكراس الشروط...الخ(.
          يفصح البعض أنّه في ظلّ غياب البنية التحتية يستحيل الاستثمار في القطاعات المنتجة والتحويلية،ويعلّلون بذلك الحيف والاقصاء الجهوي التي عانت منه الجهات الداخلية.لا يدرك هؤلاء،أنّ مختلف المنتوجات الفلاحية ما انفكت تغادر مواطن انتاجها للتحويل بالجهات الساحلية وتونس الكبرى(87% من المؤسسات الصناعية و90% من المؤسسات السياحية موجودة على الشريط الساحلي)،متجاوزة بذلك عقبة البنى التحتية الرديئة.كما أنّ العامل)بالفكر والساعد(يهجر مسقط رأسه بالمناطق الداخلية لقلة الموارد والمنشآت التشغيلية الكبرى(67% من السكان تقطن بالشريط الساحلي)،وهو يسلك نفس الطريق الرديئة بحثًا عن الشغل،لا عن منابر الثقافة ومستطيل الرياضيين أو للدّحدحة في الفضاءات الترفيهية.في الأخير،يمكن الجزم أنّ كلّ الحجج المقدمة للتأكيد على ضرورة الاستثمار في البنية التحتية لدفع الاستثمار والتشغيل،هي حجج مردودة على أصحابها،ولا تستقيم أمام ضرورة دعم المبادرة الفردية في القطاعات الانتاجية)فلاحة،صناعة تحويلية(وفي المهن الخدماتية)الطب،الطب البيطري،التقنيات المعلوماتية،الارشاد...الخ.(.كما أنه من الضروري والأجدى،اقتصاديا واجتماعيا،صياغة آليات لانشاء ودعم الاقتصاد التضامني)تمويلا،وإنتاجا،وتسويقا(مع تشريك المجتمع الأهلي.
          أمّا عن حجة الإملاءات التي يفرضها المموّل)مؤسسة بنكية،دولة مانحة(أو المستثمر الأجنبي،فليتذكر الجميع أنّ الشعب التونسي ضحية لتلك السياسة وقد ثار ضدّ تبعاتها،وأنّ السيادة جزء من الكرامة التي تعتبر شعار مركزي للحراك الثوري.إن كان ضروري أن يقع النّهوض بالبنية التحتية إلاّ أنها ليست أولوية  مطلقة في كلّ الحالات،ففي بعض الجهات الأولى أن تدفع المشاريع التنموية المنتجة الصّغرى والمتوسّطة بدل هدر الأموال لتعبيد طريق سريعة أو إنشاء سكّة حديدية؟! ما أهمية بنية متعدّدة الخدمات بجهة ما وشبابها عاطل عن العمل؟! ما المصلحة في اقامة جسر على طريق ريفي بمنطقة لا يركب أصحابها غير البغال والحمير؟! ما الغرض من سدّ تلّي بجهة أراضي أصحابها لا يقدرون على تمويل مشاريعهم الفلاحية؟! فباب البنية التحية مثل باب كهف"علي بابا والأربعين سارق"،باب سري لزرداب حيث تكدّس الأموال المنهوبة،وهو احدى آليات التكديس السريع للثروة بيد حفنة من المقاولين،ومورّدي الآلات الباهظة الثّمن،وبعض الاداريين والسّياسيين الفاسدين.حان الوقت لغلق هذا الباب وتحويل التّمويل الى أنشطة منتجة وخلاقة لمواطن شغل  ! أما عن التمويل فعلى السلطة والمجتمع الأهلي أن يعملا على:
          • مراجعة القوانين الإجرائية والعقود الجاري بها العمل للاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية(المنجمية والبترولية والفلاحية)؛
          • استرجاع الأموال المنهوبة(مهربة ومتهربة)؛
          • اعادة النظر في مسألة المديونية(إلغاء أو جدولة)؛
          • مقاومة الفساد باحداث آليات رقابة مستقلة اداريا و ماليا.
          إنّ الخوض في هذه الدروب جزء من الحوكمة المرتقبة التي ينادي بها البعض.

          1.   سلطة الشعب على الفضاء:أن يعي معني شعار:"لاخوف،لارعب...السلطة ملك الشعب !" ويكشف باطن بقية الشعارات التي رفعت ولا زالت وأن يتمحّص في أسباب العزوف عن الانتماء الحزبي والنقابي)عمال،فلاحين،تجار،طلبة(.فالإحصائيات والبنية الهرمية لسكان تونس تشير الى أغلبية العنصر الشبابي متعلم ومطلع)نسبة الربط بشبكة الأنترنات(؛وما تكاثر الجمعيات إلا دليل على مدى تعطش المواطن التونسي للمشاركة والتضامن داخل صحراء اصطناعية اجتماعية وسياسية وفكرية أحكمت تأسيسها الحكومات المتعاقبة والأحزاب النخبوية والهياكل المهنية البيروقراطية.فانفصال النّخب،وتقلص دور آليات التأطير الكلاسيكية(نقابات،أحزاب(،وانعدام إرادة تشريك المواطن و/أو عجزها البيداغوجي عن تحديث آليات التشريك في ادارة الشأن العام جعلها منزوية تعمل في ركن سوق الاتجار المالي والسياسي والإعلامي.على الجميع المساهمة في تأسيس المجتمع الأهلي والسهر على تنميته ورعايته أوّلا،والابتعاد عن سياسة الاستقطاب الحزبي لغايات انتخابية للاستيلاء على السلطة أو المشاركة فيها ثانيا.فالسلطة كجهاز تشريعي وقضائي وتنفيذي وجب إعادة تركيبها على نحوِ يسمح بإنجاز فعلي للديمقراطية في مفهومها اللّفظي الواضح:"سلطة الشعب".فالبحث المتواصل عن توازن السّلط اعتراف ضمني بصعوبة ادراك ذاك التوازن لأنّ منظومة السّلط التقليدية ووظائفها مختلة التركيب منذ تأسيسها.فإن اقتضت الضرورة التاريخية في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتعليمية والتربوية والمؤسساتية ذلك في البلدان السباقة لتأسيس تلك المنظومة الثلاثية التركيب،فإنّ الأوضاع في القرن 21 تختلف جذريا عن القرون الأربع السابقة.فالثروات المستغلة تنوّعت بحكم الاكتشاف العلمي والحاجة التقنية،والحاجيات الاستهلاكية العائلية والصناعية تكاثرت كميا ونوعيا بحكم النمو الديمغرافي وتطور النسيج الصناعي،وازدياد الطلب على الخدمات ذات البعد الاجتماعي.كما أنّ عقلية المواطن شهدت رقيّا نسبيا بحكم تأثير المستوى التعليمي وسهولة التّنقّل وتوفّر المعلومة.زد على كل هذا ما عرفته المؤسسات التقليدية من انشطار،على رأسها المؤسسة العائلية.هذا التطور المتعدد الأبعاد يفترض وجود فاعلين جدد داخل منظومة تقريرية وتنفيذية مبتكرة يكون للمواطنين الناضجين فيها دورا جوهريا.سلطة الشعب على ثروات البلاد ومقاومة كل الآليات المعيقة للاستثمار الأمثل والأجدى من ناحية،وصياغة جملة من الحوافز المالية والجبائية والمؤسساتية لدعم رأس المال الوطني لتنشيط الإستثمار والإستغلال،تراعي الشروط المثلى للمحافظة على الموارد المتوفرة وتطويرها لغاية تحقيق الإكتفاء الذاتي أوّلا،وتحفيز التصدير ثانيا،مع مراعاة مصلحة  والحفاظ على حق الأجيال القادمة في تلك الثروات وفي بيئة سليمة ثالثا.كما على السلطة الشعبية واجب عدم التفريط في الأملاك العمومية(أراضي زراعية،مناجم،غابات،موارد مائية،منشآت تاريخية...الخ.)،والمحافظة على التنوّع البيئي النباتي والحيواني،حتّى يتسنّى للدولة ضمان موارد مالية يمكن أن تفي بالحاجة للقيام بدورها الاجتماعي ويقلّص من الركض وراء القروض المالية الأجنبية.وإن كان من الضروري البحث عن جلب الموارد المالية الأجنبي.وإن كان من الضروري البحث عن جلب الموارد المالية الأجنبية للاستثمار وفتح الحدود أمام حرية تنقل رأس المال والسلع والأشخاص،ودعم الشراكة الفنية والمالية،وتحفيز التبادل الثقافي والعلمي والتكنولوجي،فمن الضروري والواجب أن نحصن المنظومة المالية والإقتصادية والتجارية والثقافية والبيئية ضدّ كلّ عبث بالسيادة الوطنية. 
          2.     منظومة السلط والجهة:على الفاعلين والمهتمين بالشأن العام،أصدقاء الحراك الاجتماعي،أن يدعموا الاقتراح الذي تقدم به البعض لمنظومة السّلط المتمثل في إحداث مجالس محلية منتخبة بصفة مباشرة وسرية لأفراد يتصفون بالكفاءة والنزاهة،يكون عدد أفرادها مناسبا لعدد الأهالي،مهمتها إدارة الشأن العام المحلي(مستوى المعتمدية،مثلا(.وتنبثق عن هذه المجالس المحلية مجلس جهوي)مستوى الولاية(يتكون من الأفراد الحاصلين على أكثر الأصوات محليا،ويكون التمثيل الجهوي بالتساوي بين المحليات.يسهر المجلس الجهوي على التنسيق والمساهمة في إدارة الشأن العام الجهوي،ثم وبنفس الطريقة ينبثق عن المجالس الجهوية"مجلس وطني للجهات"موازي للـ"مجلس الوطني الشعبي" التشريعي المنتخب الذي يكون انتخابه على الطريقة المعتادة(قائمات  وبصفة مباشرة(.لقد سعت بعض مكونات المجتمع الأهلي وبعض الشخصيات المختصة الى ادراج هذا المقترح في مشاريعها الدستورية،اقتراح جدير بأن يلتف حوله،حتى وإن اختلفت آراء أصحاب هذا الاقتراح حول مفهوم"الجهة"،وحول شكل الاقتراع(على القوائم أو على الأفراد(،وحول مستوى الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المجالس(استشاري أو تقريري وتنفيذي ورقابي(.فبقدر توالد وتطور الروابط الأهلية،كمّا وصلابة،داخل شبكة عنكبوتية،بقدر ما يتسع مجال فعل المواطن في مختلف مجالات الحياة حتى تنقلب أو تتقاطع بعض الأدوار بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع الأهلي.كما أن اقتراح تكوين مجالس لتسيير المؤسسات الإنتاجية والإدارية والخدماتية(العمومية والخاصة)ومنظومة السلط الأخرى(قضاء،إعلام)جدير بأن يؤخذ بعين الاعتبار لتفعيل الحوكمة التشاركية التي باتت فوائدها(برامج وقرارات أفقية غير فوقية،شفافية،كفاءة مهنية وعلمية،جدوى اقتصادية واجتماعية...الخ.)غير خفية على كل مطلع على تجارب الشعوب العصرية الأخرى،وهي الضامن الوحيد لاستقلالية السلط. فالمنظومة المؤسساتية التشاركية هي الحصن الذي تتكسّر على أسواره كلّ آليات الفساد الإداري والمالي و يوفّر الفضاء الأنسب لأهل النّزاهة والكفاءة.حقّ المواطن في الثروة المتوفرة بفضائه المعاشي من حقوق الإنسان البديهية.من يريد خلق مواطن التشغيل و توفيرموارد الرزق عليه أن لا يجرم أو يحيّد هذا الحق بتعلة المصلحة الوطنية والعامة.من يرغب في الحد من النزوح والظواهر الإجتماعية السلبية،عليه أن يقر بهذا الحق.من يهدف الى حسن التصرف في الموارد حاضرا ومستقبلا(حق الأجيال القادمة)مع الحفاظ على البيئة والصحة،من البديهي أن يقبل بهذا الحق والواجب.فالآليات الحالية لاستغلال الثروات بالجهات  ،والمبادئ(خوصصة)،والأهداف(تشجيع رأس المال)،والنتائج(نهب الثروات،ضرر بيئي وصحي لأهالي الجهة،طاقات شبابية معطلة،تفقير،فائض قيمة مهرب خارج الجهة)،والأنشطة والموارد والآليات(قوانين جائرة تجاه الأهالي لكن محفزة لصاحب رأس المال،موارد بشرية مسخرة للعمل في ظروف صعبة)هي إحدى أسباب الحيف والتهميش الجهوي والفئوي.لقد حان الوقت لمراجعة منوال التنمية الحالي بآخر بديل تكون ركائزه الأساسية:
          • الجهة بوظائف حقيقية في صياغة البرامج التنموية(كيفية التصرف في الموارد بالجهات،تنمية الفروع الانتاجية)؛
          • المواطن بأدوار فعلية في كافة حلقات البرمجة(شريك فعلي)داخل منظومة شبكية محددة الأدوار.
          • منظومات شبكية تهدف الى تركيز أسس الحوكمة التشاركية وذلك بتنفيذ برامجها المتشابكة والمتكاملة انطلاقا من جملة مبادئ سلوكية،من أهمها:
          •  مبدأ العمل التطوعي والتشاور والمشاركة؛
          •  مبدأ التنظيم الأفقي؛
          •  مبدأ الاستقلالية المالي؛
          •  مبدأ التسيير والتصرف الشفاف مع قبول المحاسبة والمساءلة.

          • إنّ حجم هذه المهام والاختصاصات يفترض أن تقوم هذه المنظومات بالأنشطة التالية:
          • ü      القيام بالحملات التوعية لتعزيز التفاعل ما بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع وأفراده؛
          • ü      المشاركة مع السلطات التنفيذية والتشريعية في مناقشة القضايا الهامة وفي اتخاذ القرارات الإستراتيجية؛
          • ü      المساهمة في الدراسات والأبحاث حول القضايا المجتمعية كالفقر والبطالة،وقضايا المرأة والطفل،وأسس الضمان الاجتماعي،وفي المجال التنموي والبيئي،واقتراح الحلول ومناقشتها
          • ü      الاستثمار في المشاريع  بهدف الحدّ من المشاكل الاجتماعية؛
          • ü      المتابعة ومناقشة التقارير المتعلقة بالرقابة على أداء السلطات المختلفة.
          • للقيام بمثل هذه الأدوار يعتمد المجتمع الأهلي على جملة من آليات الاتصال بين الخلايا المكونة له،من ناحية أولى،وبين الخلايا والمواطنين،من ناحية ثانية.من أهم الآليات التي يمكن اعتمادها:المؤسسات الإعلامية التقليدية،والاتصال المباشر والرقمي. قبل ختم هذه الفقرة ولغاية بيداغوجية،يمكن تمثيل مقتضيات تشكل الجهة على شاكلة الخليّة الحيّة المتعددة المكوّنات،فهي جزء من عضو لها الغشاء الخلوي(الحدود الجغرافية)والسيتوبلازم(الموارد الطبيعية)والميتوكندري(الموارد المولدة للطاقة)والجسم الهاضم(فروع الإنتاج)والريبوزوم(مركز جهوي للإعلام والدراسات يضمّ كلّ الكفاءات العلمية)والنّواة(الهيكل الجهوي المنتخب).هكذا تتكون فروع إنتاج مختصة متعددة يكون مجموع وظائفها وتكاملها أساس الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للقطر ككلّ،تحت إدارة ومراقبة المجلس المنتخب محليا،جهويا ووطنيا تعمل كل الفروع الإنتاجية في اتجاه تحقيق استحقاقات المرحلة. 
          • ملاحظة: مفهوم الجهة كجزء حياتي من المجال الوطني،كثروة طبيعية وبشرية وثقافية،كسوق للتبادل  والإثراء،كقطب تنموي،كفاعل مؤسساتي في تسيير الشأن العام،أضحى ركيزة أساسية ومحورية لإعادة النظر في التقسيم الفضائي(Découpage spacial)للمجال العام في سيرورة العمل التنموي الجهوي. على السياسيين وجميع المختصين العلميين والمواطنين أن يصيغوا المقاربة الأمثل لصياغة الشروط الأمثل لتقسيم فضائي جديد مبني على أسس علمية يؤسس لتنمية جهوية مندمجة ومستدامة 
          1.   الحوكمة التشاركية: أن يساهم في نشر ثقافة الإدارة التّشاركية للشأن العام،وإحداث ومرافقة المشاريع التنموية،وإحداث وتطوير شبكات للاتصال الأفقي والمباشر بين مختلف التشكلات الأهلية داخل المجتمع وبين المجتمعات الإنسانية،بذلك تسهم هذه المكونات في وضع اللبنات الأولى في اتجاه بناء مشروع مجتمعي،تضامني وتشاركي(مجتمع أهلي)،يكون فيه المواطن فاعل أساسي في التنمية الديمقراطية والاجتماعية،وفي منظومة الحكم والتنمية.إنّ ثورة 17 ديسمبر 2010 لا ينبغي أن تستند فقط على مجموعة من الاصلاحات السياسية،وسنّ القوانين لإرساء دعائم نظام ديمقراطي بقدر ما ينبغي أن تسعي إلى تغيير منظومة القيم والمؤسسات.فصياغة الدستور والقوانين على أهميتها القصوى لا تؤدي إلى تحقيق التحول الديمقراطي المنشود إلا إذا صاحبتها ثقافة ديمقراطية لدى كافة المواطنين حكاما ومحكومين،ترسّخ لمبادئ تقوم على المواطنة،ناهيك عن قيم المشاركة وتداول السلطة عبر انتخابات نزيهة تضمن حق كافة القوى في الوجود دون إقصاء.إن التحول الديمقراطي ينبغي أن يرقي الى مستوى أهداف الثورة،ويتطلب ذلك نشر وتعميم ثقافة الديمقراطية داخل المجتمع،بصورة تدفع المواطنين إلى الاحترام المتبادل،والمشاركة الطوعية الفاعلة،والاختيار الحرّ.وتبدأ الثقافة الديمقراطية من مؤسسات التنشئة السياسية،سواء كانت الأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو الحزب السياسي أو الجمعية الأهلية.على الرغم من أنها عملية معقدة وطويلة الأمد،نظرا لتجذّر الثقافة السلطوية لسنوات،إلا أن هناك أبعادا ملحة ينبغي على كافة مؤسسات المجتمع الأهلي أن تتعامل بها،وتبذل قصارى جهدها في نشرها،وهي تلك الأبعاد التي تعد المواطنين،في مرحلة التحول الديمقراطي الراهنة،إلى فهم دورهم السياسي القائم على المشاركة الفاعلة والطوعية.فمؤسسات المجتمع الأهلي تعتبر الإطار الأمثل لتنشئة المواطنين على القيم الديمقراطية في حياتهم اليومية وتدريبهم عمليًا على الممارسة الديمقراطية وإكسابهم خبرة هذه الممارسة من خلال النشاط اليومي لهذه المؤسسات خاصة لما تقوم به من دور في الدفاع عن مصالحهم،أو تقديم خدمات لهم،أو تحسين أحوالهم المعيشية.وتلعب مؤسسات المجتمع الأهلي دورها في التنشئة والتدريب على العملية الديمقراطية من خلال العلاقات الداخلية لكل منظومة،والتي تنظمها قانون داخلي أو نظام أساسي يحدد حقوق وواجبات الأعضاء،وأسس إدارتها من خلال مجلس المؤسسة منتخب وجمعية عمومية تضم كل الأعضاء وتعتبر أعلى سلطة في المؤسسة تنتخب المجلس،وتراقب أداءه،وتحاسب،وتقاضي أمام السلطة الرقابية إن اقتضى الأمر ذلك.وكلما أصبحت مؤسسات المجتمع الأهلي أكثر ديمقراطية في حياتها الداخلية فإنها تكون أقدر علي المساهمة في التطور الديمقراطي للمجتمع بأكمله،وأكثر قدرة على إكساب أعضائها الثقافة الديمقراطية،وتدريبهم عمليا من خلال النشاط اليومي على الممارسة الديمقراطية.    
          2.    المنظومة الرقابية :للفساد كظاهرة اجتماعية أسباب رئيسية وأخرى ثانوية،كما أن السلبيات عديدة ومتنوعة.من الأسباب الرئيسية انعدام القيم الأخلافية والحس الوطني والمهني والمسؤولية الأسرية.أما الأسباب الثانوية قتتعلق بالحيف المادي ـ الاجتماعي الفئوي والطمع في الكسب السهل للثروة والشهرة.الفساد الإداري جزء من الظاهرة يتميز بالموقع(مؤسسة إنتاجية أو خدماتية،عمومية أو خاصة،وبنوعية الفاسدين والمفسدين(من أجراء مسؤولين أو مكلفين بخدمات)،والآليات القانونية والإجرائية التي تغذي الفساد والرشوة والمحسوبية(طرق الانتداب،سلم الأجور،الامتيازات المادية وغير المادية،شروط الترقية والعزل،إطار إداري تغيب قيه منظومة المتابعة والمحاسبة الدورية.لمكافحة الفساد يجب صياغة برنامج قصير المدى(قضائي)،ومتوسط المدى(انتداب الكفاءات،تحسين ظروف العمل،إحداث هياكل تسييرية تشاركية)،وطويل المدى(برامج تربوية وتعليمية،بنية السلط). 
          3.    المنظومة القضائية:نظرا لما للتصرف في الملك والمال العموميين من أهمية وتشعب وما يشهده من تدخل هيئات تنفيذية ومؤسسات ومنشآت مختلفة فانه يتعين توحيد جميع الأجهزة الرقابية في سلطة مستقلة بذاتها ماليا وإداريا تتولى البحث والتمحيص والتدخل إما طبق برامج عملها العادية أو كلما طلبت منها ذلك سلط محلية او جهوية او افراد او هيئات اهلية،للتثبت في الملفات المحالة إليها وأسلوب عمل الادارة وتكريس الشفافية في التعاطي مع المعلومة الادارية ولا سلطان عليها لغير القضاء عند الاقتضاء.تشرف على عمل هذه السلطة محليا وجهويا ووطنيا هيئة رقابية عامة منبثقة مناصفة عن كل من مجلس الوطني للجهات والمجلس الوطني الشعبي لكامل المدة النيابية ولا يمكن عزل اعضائها طيلة هذه المدة.تتولى هذه السلطة وجوبا نشر تقاريرها وإحالتها الى مختلف السلط العمومية بالدولة بما في ذلك الهيئة الاعلامية.
          4.     الحريات الفردية والعامة: الحقوق والحريات تحتاج الى تكريس المساواة في القانون بين المواطنين والحد من التفاوت الاجتماعي بين الأفراد والفئات ومنع أي تمييز.وتشمل الحريات الفردية الحق في الحياة وحرية الفكر والتعبير والإبداع وممارسة الشعائر الدينية والمعتقد.وكذلك حرية اختيار الزوج أو الزوجة ومكان الاقامة وحرية الجولان داخل البلاد وخارجها وحق كل مواطن في الأمن له ولممتلكاته وأيضا الحق في الاعلام الحر مع نبذ كل أشكال الرقابة والمراقبة.وفي باب الحريات العامة وجب تجسيم حرية النشاط السياسي والعمل النقابي وحرية الصحافة والنشر والإبداع الثقافي وحرية الاعلام وتكوين الجمعيات والاجتماع والتظاهر والى ضمان الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين عبر حق الاقتراع والترشح لكل المؤسسات التمثيلية،وكذلك تأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين كالحق في الشغل القار والتعليم والثقافة والسكن اللائق والصحة والتغطية الاجتماعية وضمان سلامة المواطنين المادية والمعنوية ونبذ كل أشكال التعذيب. لبناء الدولة الاجتماعية يجب وجود سلطات مستقلة ومتعاونة،سلطات تنموية وتشريعية وتنفيذية وقضائية وإعلامية.ومن أوكد الضمانات لتحقيق التقدم المنشود يجب توفير هياكل دستورية لقضاء مستقل ونزيه،إعلام حرّ ومسؤول ولمجتمع أهلي قوي وناجع. 
          5.    المنظومة الاعلامية :إنّ رغبة الاعلاميين في الحرية تكمن في خط تحرير يُصالح هذه المؤسسات مع المواطن.الحلّ يكمن في خروج مؤسسات الاعلام العمومي من تحت ضغط صاحب رأس المال والرجل السياسي،ومن دائرة الأنماط الاعلامية التقليدية المركزية،مع فسح المجال للمقالات والتحليلات المعمّقة وصحافة الاستقصاء،وتوفير فضاء للإعلام المحلي والجهوي.فالمجتمع الأهلي في حاجة إلى إعلام حرّ يدعمه وينشر أفكاره بين فئات الشعب،والإعلامي بدوره بحاجة الى مؤسسات المجتمع الأهلي لتوفر له الأخبار والأفكار والحلول لمشكلات هذه الفئات،وأيضاً للدفاع عن الصحفي نفسه في مواجهة تعسف السّلطة.            
          6.      المنظومة الأمنية:إذا أصبح المواطن شريك فعلي في كل المستويات،بالمحلات والجهات مهما كانت طبيعة وكمية ثرواتها(حوكمة وعدالة جهوية)،بالمؤسسات العامة والخاصة مهما كان مجال تخصصها(حرية المبادرة وشفافية التسيير)،إذا تحقق الاكتفاء الذاتي من المواد الأساسية ووزعت الثروة بعدالة(تنمية اقتصادية وبشرية وتضامن)،إذا قامت السلطة بدورها الاقتصادي والاجتماعي،وإذا قامت المؤسسة التربوية بواجبها التثقيفي فإن أسباب توالد الظواهر الاجتماعية المنحرفة  زائلة لا محالة.كما أن جهود "الأمن الاجتماعي" أو "الأمن الجمهوري"لمقاومة الجريمة والسلوك المنحرف تتقلص بالضرورة،مما يستدعي صياغة قواعد جديدة للرسكلة والتكوين بالتوازي مع تقليص الانتداب وحجم الاعتمادات لشراء العتاد،بالتالي تخفيض الميزانية الموجهة لنشاط المنظومة الأمنية لصالح تنمية القطاعات المنتجة.هكذا يمكن إعادة النظر في تشكل المنظومة الأمنية من حيث الأهداف(السهر على أمن المواطن)والوظائف(حفظ الممتلكات من شرور البشر والمناخ،شريك في التنمية).كما أنّه بالحوكمة التشاركية لن يعود هناك موجب للأمن السياسي الداخلي.                 
          7.      منظومة الدفاع الخارجي:(جيش،جمارك،علاقات ديبلوماسية):إن العلاقات الدولية مبنية على ثنائية التعاون والتطاحن،تعاون محركه الأساسي فتح آفاق المجال الفضائي أمام تسويق كل شيء مادي أو غير مادي،وتطاحن هدفه التأسيس لأضلع المثلث:"الثروة ـ القوة ـ التبجح"،الذي ساهم في خلق حال من التوتر الدولي المزمن.هل يمكن لدول العصر الحالي المتميز بتغير ديمغرافي كمي ونوعي،وتحول نوعي لفضاء الكوكب الأرضي،أن تجانب هذه الحتمية التاريخية(العولمة)،بالمحافظة على جوهر منظومة السّلط التقليدية داخل سياج "الدولة الوستفالية"؟ هل من المعقول أن تبقي هذه الدول على المنظومة المؤسساتية العالمية)مؤسسات أحدثت لإدارة الأزمات(،وليدة حرب الأربعينات من القرن الماضي،لإدارة شأن مستقبل الإنسانية؟ إن النظر إلى العولمة،من زاوية حرية تنقل الأشخاص والسلع والأموال،كفيل بتهافت المنخرطين في هذا التمشي(مؤسسات وأفراد)،وقد سهل العلم(اتصالات رقمية،سرعة المواصلات)،والمؤسسات الخدماتية(بنوك،تأمين)،والاتفاقيات الدولية عملية الانخراط هذه.حتى الدول الصاعدة(الصين،الهند،البرازيل)و"المناهضة"لاقتصاد السوق قبلت الانخراط في مسار العولمة مع بعض الاحترازات،من هنا وهناك،حول الآليات وشروط الانخراط(حقوق الانسان،محافظة على البيئة)وحول كيفية مجابهة التأثيرات السلبية للعولمة(فقر،تهميش،أوبئة).إذا كان هدف كسر حدود الدول ذو بعد انساني وبيئي،فلماذا هذا التسابق "شمال/شمال"نحو الانتاج العسكري وهذه الشروط المجحفة الذي يضعها شمال الكوكب أمام تنقل سلع وأفراد بلدان الجنوب؟

          الخاتمة
          امتاز الحراك الثوري بتونس على غيره من المسارات بنشأته البركانية وحركته البراونية.فقد كان لرواسب السلطة الكليانية تأثير كبير في تعطيل تطور قوى الانتاج بالمحافظة على نمط الانتاج وشكل ملكية وسائل الانتاج والتحكم في عملية التبادل بالسوق الداخلية.منوال تنمية خلق حالة مزمنة من عدم التوازن المالي ارتهنت بموجبه البلاد وخضعت لإملاءات الدوائر المالية والنقدية المجحفة،كما أسس لسياسة القمع المادي والفكري لتصحر الفضاء المجتمعي.لم تكنس كل التحركات الجماهيرية السابقة ما وقع كنسه خلال سنة واحدة(2010/2011)تحت شعارات مطلبية بعضها حيني وآخر متوسط المدى،أهمها:"ديقاج"؛ "شغل،حرية،كرامة"؛"االتشغيل استحقاق...يا عصابة السراق"؛"القصاص من القنّاص"،وقد صاحب هذه الشعارات شعار مركزي استراتيجي المتمثل في:"الشعب يرد إسقاط النظام".فإذا كان دور الحكومات المتعاقبة يكمن في الحرص على حراسة مصالح فئات وعائلات محدودة العدد ولصالح الشركات المتعددة الجنسيات وهو ما عطّل الحركة التنموية على جميع الأصعدة،ونتج عنه تكبيل نموّ المجتمع،فانّ بداية تشكل المجتمع الأهلي بتونس يمكن أن تقطع مع ذاك التمشي بالتوجه للعمل التنموي/الاجتماعي أكثر منه سياسي/حزبي وذلك لعدة اعتبارات ورد ذكرها أعلاه.
          فمن الأنشطة الملحة لتحقيق الأهداف القصيرة ومتوسطة المدى وجب على أصدقاء الثورة المساهمة في إرساء اللبنات الأولى لدعم تشكل المجتمع الأهلي والنضال من أجل مشاركة أوسع للمواطن في تسيير الشأن العام وفي صياغة البرامج التنموية المحلية والجهوية الراجعة بالنظر.
          نحن نعيش في عصر النانوتكنولوجي والاتصال الرقمي وهو ما يجعل الانسان قادرا على انجاز أشياء في يوم واحد كنا نحتاج أشهرا وسنوات لتحقيقها.التراكم السريع للمعارف يجعل الانسان محتاجا الى ايلاء أهمية اكبر للتواصل.وهنا يكمن التحدي الاكبر:سرعة المعلومة يجب ان تساعد على تناقل المضامين لاغناء حياة البشر بالقيم والمثل والمبادئ.ولا تقدم للأمم والشعوب دون أنسنة التكنولوجيا وتطويعها لتحقيق الخير الذي يبقى الغاية السامية للمجتمع الانساني. 
          يجب ان ندرك اكثر ان امتلاك التكنولوجيا هو مفتاح الحصول على موقع في العالم والدفاع عن مصالحها.قدرنا ان ننفتح على الاخر،وان لا يبقى هذا الانفتاح رهين نظرة استهلاكية سلبية او رافضة،لانه لا سبيل لأي نهضة مجتمعية أو تنموية دون التكنولوجيا ودون تنافسية اعلى في انتاج المعرفة والعلوم وتطبيقاتها وتطويعها في كل الميادين.الفقر المعرفي موجود ولكن المسؤول عنها ليس الشمال فقط وانما غياب استراتيجية واضحة للتقدم العلمي والتقني،وهنا يجب ان لا ننسى عاملا هاما في هجرة الأدمغة وهي السبب الرئيسي للفقر المعرفي وهو الكبت السياسي والاستبداد لان المعرفة تحتاج الى حرية والعقل المقيد لا يستطيع ان يفكر او يبدع.الآن،الأمر يستدعي إعادة التفكير في كلّ هياكل المنظومة بتركيباتها المتعدّدة(مالية،إنتاجية،تمثيلية سياسية،إعلامية وقضائية)،وفي كيفية استغلال الموارد محدودة الكمية والفانية منها والمتجدّدة،وفي آليات توزيع الثروة(عالميا،إقليميا وجهويا).إعادة النّظر هذه لا يمكن فصلها عن الدّور الجديد الذّي يجب أن يلعبه المواطن،ويمرّ ذلك بتغيير مفهوم وموقع المواطن داخل منظومات مؤسساتية جديدة(حكومية أو خاصة).صياغة منظومات مؤسساتية جديدة،يكون العيش الكريم للإنسان هدفها وحسن استغلال الموارد عمودها وحفظ البيئة-بالمعنى الواسع للكلمة-أساسها والحوكمة التشاركية وسيلتها.إنّ ما سبق ذكره يمثّل مواد أساسية عند البحث عن البدائل الممكنة،والطّريق الواجب سلوكها لصياغة مشروع يقضي على التبعية ويحفظ السيادة والكرامة الوطنية.فالنّقاش أو التّطارح حول هويّة الدّولة واستقلالية المؤسّسات(قضاء-إعلام)وتوازن السّلط(تنفيذية-تشريعية-قضائية)وحرّية المواطن(دينية-فكرية-تعبير)وحقوق الفرد(صحّة-تعليم-تنقّل)والواجبات،لا تقطع مع المقاربة القطاعية والمهنية الضيقة.كلّ ما ورد أعلاه من طموحات(شعارات،برامج)يجب أن ينبع من تصوّر أشمل لمفهوم الدّولة ووظائفها:(1)كمجال حياة بما فيه من موارد وكيفية استغلالها وتسويقها وتوزيع قيمتها المضافة، (2)كشعب مركّب له قواسم مشتركة كما لأفراده من طموحات فردية وخصوصية،كلّ حسب موقعه الاجتماعي ومفهومه للانتماء،وهي إحدى الأسس الرئيسية للعقد الدّستوري،(3)كسلطة تسهر على حماية المجال والمواطن بالرّجوع الدستور.
          كما إنّ الفساد الإداري والمالي لا يقاوم بتكديس الآليات القانونية الردعية والخطب الأخلاقية،بل بمقاربة جديدة تجعل من المواطن  الرّقيب الأول،لا بمفهوم الرتب العسكرية والأمنية،بل من منطلق الحق والواجب.حتى لا يبقى هذا المبدأ حبرا على ورق أو شعار مناسباتي يجب خلق منظومة عمودية وأفقية الشكل للسلط النيابية بالمحليات والجهات،داخل المؤسسات الحكومية والخاصة،وإحداث منظومة رقابية.إنّ الحوكمة التشاركية تستدعي مثل هكذا مؤسسات،كما تفترض الشفافية في التصرف المالي والبشري وهذا يعني بالضرورة حق المواطن في الاطلاع والابداع،وحرية الإعلام في الاطلاع والنقد والنشر.أما الجانب الردعي،فلا يختلف عاقلان في استقلالية المنظومة القضائية.
          للقطع مع هذا الماضي وإعطاء المواطن(هدف كلّ عملية تنموية)المكانة المستحقّة)شغل،حريّة،كرامة(وجب صياغة تصوّر شامل هادف إلى الاجابة إلى تطلّعات كل الفئات والجهات،تصور يمكن من خلاله صياغة دستور يثوّر الآليات التمثيلية(السّلط(بإعطاء مكانة جديدة للمواطن )شريك فعلي،مقرّر ورقيب(والجهة،وهو ما يستوجب الحقّ في المعلومة وحرّية التّعبير والتّنظّم والتّقاضي.هذا هو السّبيل الأنسب للقطع مع الصّراعات"البيزنطية"والمزايدات السياسية و"الديمقراطية التمثيلية"التي تدور داخل أروقة قبة باردو وعلى شاشة التّلفاز وصفحات الجرائد الورقية والالكترونية.فالبرامج الاجتماعية والاقتصادية المعدّة سلفا،كما مشاريع الدّستور المقترحة من طرف جلّ الأطراف لا تقطع مع منوال التّنمية اللّيبرالي ولا مع إملاءات المؤسّسات المالية المقرضة،وهو ما يوحي بعملية التفاف كبرى لإجهاض المسار الثّوري.
          الدولة المسؤولة والشرعية هي تلك التي تحترم إرادة الشعب ببسط السلطة على خيرات البلاد،وحسن التصرف فيها،وعدالة توزيع عوائدها،والقاطعة مع سياسة المديونية.لا معنى للشرعية والسيادة بدون حوكمة جيدة،وهذه الأخيرة غير ممكنة بدون تشريك فعلي للمواطن في تسيير الشأن العام.لا أفق لثورة شعبية وثروات البلاد تنهب بشتى الطرق القانونية وغير القانونية.إن اعتماد نفس التّمشّي لمنوال التنمية نتائجه الاقتصادية محدودة وتأثيراته الاجتماعية سلبية وعواقبها البيئية كارثية.إن حق المواطن في الثروة المتوفرة بفضائه المعاشي من حقوق الإنسان البديهية.من يريد خلق مواطن التشغيل وتوفير موارد الرزق عليه أن لا يجرم هذا الحق بعلة المصلحة الوطنية والعامة،ومن يرغب في الحد من النزوح والظواهر الاجتماعية السلبية و يهدف الى حسن التصرف في الموارد حاضرا ومستقبلا(حق الأجيال القادمة)مع الحفاظ على البيئة والصحة،من البديهي أن يقبل بهذا الحق بل من الواجب التنصيص عليه في الدستور.الآليات الحالية لاستغلال الثروات بالجهات(قوانين جائرة تجاه الأهالي لكن محفزة لصاحب رأس المال،موارد بشرية مسخرة للعمل في ظروف صعبة)،والمبادئ(خوصصة)،والأهداف(تشجيع رأس المال)،والنتائج(نهب الثروات،ضرر بيئي وصحي لأهالي الجهة،طاقات شبابية معطلة،تفقير،فائض قيمة مهرب خارج الجهة)هي إحدى أسباب الحيف والتهميش الجهوي والفئوي.لقد حان الوقت لمراجعة منوال التنمية الحالي،بحيث تكون الجهة والمواطن أهم الفاعلين الرئيسيين  الأساسية  في العملية التنمية(كيفية التصرف في الموارد بالجهات،المواطن كشريك فعلي)،مع اعتماد مقاربة منظوماتية وبرامج مندمجة تهدف إلى تنمية مؤسسات صغرى ومتوسطة.
           إن الفيئة العمرية ما بين 59-15سنة تمثل 2/3 من العدد الجملي للسكان منهم 2/3 بالمناطق الحضرية،حيث إمكانيات التنسيق والتواصل متوفرة،والثلث الآخر بالقرى والأرياف حيث تتوفر وسائل التنقل والمعلومة.يكفي أن يكف الجيل السابق على سياسة"الحقرة"والإنتهازية حتى نضع لبنات التواصل والمشاركة المواطنية الفعالة والمسؤولة.فالمطلوب أن تعف المكونات التي تتدعي انتمائها للمجتمع"المدني"عن التلاعب بالطاقات الشبابية المنخرطة داخلها بأن تعطيها مجال للمساهمة والمشاركة حتى لا تكون محرجة بتكاثر أخطاء لم يرتكبوها! المرغوب فيه،أن يعمل الشباب على التخلص من تلابيب ايديولوجيات القرون الماضية،والتملص من فخ الإنتماء إلى أحزاب تقليدية الهيكلة في اتجاه تشكيلات أفقية متشابكة ومكملة بعضها لبعض،وتكثيف التواصل والإثراء بآليات الاتصال المباشر في بعديه:المباشر عن قرب(حلقات،ندوات)أو المباشر عن بعد(انترنات،شبكات التواصل الإجتماعي)!

          أمّا الهدف الاستراتيجي(إسقاط النظام)فهو رهين الحراك الجماهيري العالمي الموازي.فالمنظومة العالمية يحكمها رأس المال المالي عبر مؤسّسات أخطبوطية مختصّة منها السّياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي،كما أنّها متمكّنة بعديد المؤسسات المشابهة على المستوى الإقليمي والقطري.هذه المنظومة تملي خططها على السّاسة مباشرة وبتنصيب عملاء تكنوقراط في كلّ المجالات،ضاربة بذلك استقلالية الدّول وتعمل على تضييق مجال تدخّل المؤسّسات الحكومية،خاصّة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.فمنوال الإنتاج المملى والمقاربة لا هدف لهما غير الرّبح السّريع واستغلال فاحش للموارد المتاحة بما فيها الموارد البشرية.إنّ التأثيرات السلبية للكوكبة ظاهرة للعيان،والمواجهة الجماهيرية في نسق لولبي/تصاعدي،وفي حالة انتشار جغرافي سريع،فما على المهتم بالشأن العام التونسي إلاّ أن ينخرط في صلب هذه المواجهة للمساهمة في إسقاط النّظام القائم وكسر مفاصل الكوكبة.



          د.عبد المجيد بنقياس
          طبيب بيطري

          نوفمبر 2012 

          Aucun commentaire:

          Enregistrer un commentaire