lundi 14 novembre 2016

البنية التحتية و التنمية - عبد المجيد بنقياس


كثر اللّغو في الآونة الخيرة عن أولويات الاستثمار،حيث تطارحت الرؤى بين زوايا المربع التنموي:الأمن،البنية التحتية،الاستثمار و التشغيل.في حين تدافع الحكومة عن الزوايا الثلاث الأولى،تهاجم الفئات الأكثر تهميشًا{الشباب العاطل،الجهات الداخلية}انطلاقا من الزاوية الرابعة.لكن،لنذكر البعض،أنّه من البديهي أن يكون  محك الاستحقاقات تلك الشعارات الشعبية(لا النخبوية أو الشعبوية)؛ومن المنطقي أن تكون الشرعية للجهة التي قامت بارباك{لا أقول إسقاط}المنظومة السابقة. 

الإستحقاق،في ميدان الحروب القديمة،يعود لمُسقط الفارس لا الى المنهزم أو لأي راكب جديد آخر.كما كثرت المزايدات،قبل الانتخابات، على الدور المحوري للمواطن في صيرورة صياغة الخيارات(المواطن الصّاحب)للاكتفاء بوضعه في زاوية المتفرج على سرك المحاصصة السياسية(المواطن النّاخب)وان اعترض فالتنكيل اللفظي والبدني في انتظاره(المواطن النّاحب أو الصّاخب).
في الحالة التونيسية،الإنفاق في القطاعات الانتاجية أولى من الاسراف على البنية التحتية،مع استثناء الوحدات الخدماتية المبرمجة{الصحة،التعليم،الثقافة،الرياضة،الري،التنوير}.فالاستثمار في البنية التحتية ضروري،لكن ليس من أولويات الأغلبية الشبابية الطامحة للشغل وأهالي الجهات المهمشة.البنية التحتية رافد من روافد التنمية لكنها ليست أساسية،من يسوّق لأولوية البنية التحتية عليه أن ينظر لصيرورة نمو ضيعة أجداده،والقرية التي يسكنها،والحيّ الذي يقطنه،والمدينة التي بها ترعرع،عليه بقراءة تاريخ الحضارات...البنية التحتية انجاز يخدم مصالح الميسورين:من كبار موظفي الدولة باعتبار كثرة التنقل لأداء المهمات الرسمية والخاصة،من صناعيين لإنجاز مشاريعهم الخاصة التي ليست بالضرورة وحدات تشغيل لليد العاملة،من كبار التجار وسماسرة المواد الأولية،وكبار الفلاحين أصحاب المنتوج المتنوع والوافر.الاستثمار في البنية التحتية غير الخدماتية مكلفة جدا،أوّل المنتفعين به هم أصحاب المقاولات الكبرى التي ترعرعت في ظروف مشبوهة،كما أنّه من الصعب متابعة ومراقبة آليات صرف الأموال المرصودة التي كثيرا ما تصرف في غير محلّها{رشوة،فوترة مضخمة،محسوبية،انجازات مخالفة لكراس الشروط...الخ}.يفصح البعض أنّه في ظلّ غياب البنية التحتية يستحيل الاستثمار في القطاعات المنتجة والتحويلية،ويعلّلون بذلك الحيف والاقصاء الجهوي التي عانت منه الجهات الداخلية...نقول لهؤلاء،أنّ مختلف المنتوجات الفلاحية ما انفكت تغادر مواطن انتاجه للتحويل بالجهات الساحلية وتونس الكبرى متجاوزا بذلك عقبة البنى التحتية الرديئة...نؤكد أنّ العامل{بالفكر والساعد}يهجر مسقط رأسه بالمناطق الداخلية لقلة الموارد والمنشآت التشغيلية الكبرى،وهو يسلك نفس الطريق الرديئة بحثًا عن الشغل،لا عن منابر الثقافة ومستطيل الرياضيين أو للدحدحة في الفضاءات الترفيهية...في الأخير،نجزم أنّ كلّ الحجج المقدمة للتأكيد على ضرورة الاستثمار في البنية التحتية لدفع الاستثمار والتشغيل،هي حجج مردودة على أصحابها،ولا تستقيم أمام ضرورة دعم المبادرة الحرة في القطاعات الانتاجية{فلاحة،صناعة تحويلية}وفي المهن الخدماتية{الطب،الطب البيطري،التقنيات المعلوماتية،الارشاد...}.كما أنه من الضروري ومن الأجدى،اقتصاديا واجتماعيا،صياغة آليات لانشاء ودعم الاقتصاد التضامني {تمويلا،وانتاجا،وتسويقا} مع تشريك أجزاء من المجتمع الأهلي.أمّا عن حجة الإملاءات التي يفرضها المموّل{مؤسسة بنكية،دولة مانحة} أو المستثمر الأجنبي،فليتذكر الجميع أنّ الشعب التونسي ضحية تلك السياسة وقد ثار ضدّ تبعات تلك السياسات،وأنّ السيادة جزء من الكرامة التي تعتبر شعار مركزي للحراك الثوري.

أما عن التمويل فعلى الحكومة والمجتمع الأهلي أن يعملا على:1/مراجعة القوانين والعقود الجاري بها العمل للاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية(الموارد المنجمية والبترولية والفلاحية)؛2/ استرجاع الأموال المنهوبة(مهربة و متهربة)؛3/اعادة النظر في مسألة المديونية(إلغاء أو جدولة)؛4/مقاومة الفساد باحداث آليات رقابة مستقلة اداريا و ماليا.الخوض في هذه الدروب جزء من الحوكمة المرتقبة التي ينادي بها البعض.

خفايا الشعارات والحقائق الخفية - عبد المجيد بنقياس


شعاران يترددان كثيرا خلال كل تململ واحتجاج اجتماعي ألا وهما :"يا حكومة عار عار،الأسعار شعلت نار !"و"الشعب يعاني في الأرياف يا حكومة الالتفاف !".كثرت التعاليق على ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطن ورمى المجتمع الأهلي بدلوه بما في ذلك جمعية الدفاع عن المستهلك التي دعت مؤخرا لمقاطعة البطاطا بعد حملة صيفية أولى نادت خلالها بمقاطعة اللحوم الحمراء.
فحسب الأرقام الصادرة عن معهد الإحصاء الوطني في 05/10/2012،يمثل الغذاء قرابة 33% من مجموع سلة المواطن التونسي الاستهلاكية.تعود هذه الزيادة الى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنحو 7.5% مقارنة بشھر نوفمبر2011.ويفيد المعهد أن الزيادة شملت أسعار اللحوم(13.6%)والبيض(12.5%)والخضر(11.5%)والحليب ومشتقاته والبيض(8.2%)والغلال والفواكه الجافة(8.4%)والأدوات المدرسية(7.8%).في ذات السياق شھدت مجموعة اللباس والأحذية ارتفاعا بنسبة 7.8% باحتساب الانزاق السنوي نتيجة ارتفاع أسعار المابس بنسبة 8.0% وأسعار الأحذية بنسبة 7.2%.كما ارتفعت أسعار مجموعة المطاعم والنزل بنسبة 8.8% وارتفاع أسعار المقاھي والمطاعم بنسبة 8.9% وخدمات النزل بنسبة 7.8%.  
 كما ارتفعت ﻧﺳﺑﺔ اﻟﺗﺿﺧم ﻋﻧد اﻻﺳﺗﻬﻼك اﻟﻌﺎﺋﻠﻲ ﻟﺷﻬر ﻧوﻓﻣﺑر2012 إﻟﻰ ﻣﺳﺗوى %5.5.
لكن ما لم يوضحه البعض أن العناصر والآليات والفاعلين التي تحدد أسعار المواد الاستهلاكية عديدة ومعقدة.

1/العناصر
     1.1ـ ارتفاع أسعار مستلزمات الانتاج(الميكنة،الطاقة،البذور،الأدوية،الحيوان)وزيادة كلفة اليد العاملة والنقل والأداءات بالأسواق البلدية التي تسببت في ارتفاع كلفة الإنتاج؛
      1.2ـ ارتفاع نسبة التوظيف الجبائي على ما يعرف بالهباطة وتجار التفصيل(خضار،عطار،دجاج...الخ.)التي قد تصل الى حدود الـ 14%.
ما يخفي على العديد هو المستوى المعيشي المتدني لساكني الأرياف بصفة عامة،وصغار ومتوسطي الفلاحين بصفة خاصة،الذين يرزحون بين مطرقة أسعار مستلزمات الانتاج(منتجين)وسندان أسعار المواد الاستهلاكية(مستهلكين).إنّ الريف التونسي(3/1 السكان)مطالب بتوفير أغلب المواد الأولية الفلاحية للاستهلاك العائلي الحضري والريفي ولاستهلاك النسيج الصناعي والمساهمة في الموازنة بين الواردات والصادرات.إذا استثنيت بعض فروع الإنتاج الفلاحي ذات الصبغة الخصوصية التي لا تعتمد على الأرض كعنصر انتاج(الوحدات الكبرى لانتاج اللحوم البيضاء والبيض،وحدات الصيد الكبرى وتربية الأسماك)فإن 75% من الانتاج توفره المستغلات الفلاحية الصغرى التي لا تفوق مساحتها الـ 10هك،تلك التي لا تتجاوز جملة مساحتها الـ25% من المساحة الفلاحية الجملية.كما لا يعرف العديد،أنّ ارتفاع كلفة الانتاج الفلاحي جعلت من الدخل الصافي لمثل هذه المستغلات التي تحوم مساحتها حول الـ10هك،باستثناء تلك تعتمد النمط السقوي،لا يتجاوز الدخل السنوي الخام للأجير الفلاحي(2400 د.ت)،وهو ما يفسر عزوف الشباب عن النشاط الفلاحي والنزوح والهجرة السرية.

2/الآليات
إنّ الحكومات المتعاقبة ما فتئت الاعتماد على حزمة من الآليات لتعديل أسعار المواد الأساسية(حبوب وحليب ومشتقاتهما،لحوم بيضاء وحمراء) وذلك بالاعتماد على:
  1.2ـ تعديل الأسعار عن طريق الصندوق الوطني للدعم؛
  2.2ـ تخفيض الكلفة الانتاجية الفلاحية بدعم المحروقات مع جملة من الحوافز المالية والجبائية عند الاستثمار؛
  3.2ـ توريد المواد الأساسية كلما ارتفعت الأسعار وتكاثر التخزين الاحتكاري؛
  4.2ـ تدخل جزري/أمني لمقاومة التهريب وتوسع رقعة السوق الموازية والاحتكار.
لا ينفي أحد قيمة هذه الآليات الاجرائية التي تخدم مصلحة المستهلك الريفي والحضري(الآلية 1.2)،لكن كثرة اللجوء الى الاجراءات 3.2 و 4.2 لا تخدم مصالح المنتج لأنها بكل بساطة تخدم مصالح فئة قليلة من الموردين الخواص وبعض الفاسدين المتواجدين في أعلى هرم السلم الإداري بوزارتي"الصناعة والتجارة"و"الفلاحة والصيد البحري".أما الاجراء 2.2 فهو،في نظر أغلب العارفين والفلاحين،بمثابت ذرّ رماد في العيون لأنّ أغلب مكونات كلفة الإنتاج الفلاحي(مستلزمات الإنتاج)لا تشملها هذه الآلية،وإن شملتها في بعض الحالات فغالبا ما يكون بعد فوات الأوان وبمفعول غير رجعي.

3/الفاعلين
تعتمد المنظومة الحالية على كمّ هائل من الفاعلين يمكن استبيانها من خلال الآليات سابقة الذكر.فهناك المنتجون على اختلاف انماط الانتاج وهياكلهم التمثيلية(نقابات،مجامع،تعاضديات)،والمجمّعون والموزّعون فرادى كانوا أومنظمون في هياكل قانونية أو غير قانونية(مجامع الحبوب،مجامع الحليب،تعاضديات الخدمات الفلاحية،هبّاطة الخضر،جلاّبة الحيوانات...)،والنسيج الصناعي ـ الغذائي التقليدي والعصري(صناعة التّصبير والتّعليب،صناعة التّجزئة والتّحويل)،والمؤسسات الإدارية من صناديق الدعم المالي والاجتماعي(صندوق الدعم،صندوق التضامن الاجتماعي)والدواوين(ديوان الحبوب،ديوان الزيت)والوكالات(وكالة الاستثمار الفلاحي،وكالة الارشاد الفلاحي)والمندوبيات الجهوية الفلاحية وفروعها المحلية،والوزارات(التجارة والصناعة، الداخلية،المالية)وبعض منظمات المجتمع الأهلي(منظمة الدفاع عن المستهلك،النقابات الفلاحية،اتحاد الشغل).
من خلال هذه المنظومة الكبيرة والمعقدة،القانونية منها وغير القانونية،يمكن فهم تعدّد المصالح المادية والمعنوية ومستوى حدّة تناقضها،كما يمكن تخيّل حجم الفساد الإداري والمالي الذي ينخر منظومة الفاعلين.من السّهل على قارئ هذه الأسطر أن يستشفّ الحلقة الضعيفة داخل هذه المنظومة وبالتالي عليه،إن كان من أصدقاء الثورة والحق،أن يصطفّ إلى جانب الضعيف الذي لا يدخر حبّة عرق واحدة في سبيل توفير حاجيات المستهلك التونسي من المواد الأساسية !

د.عبد المجيد بنقياس

09/12/2012

هيبة الدولة - عبد المجيد بنقياس


انطلقت الحملة الانتخابية بداخل كلّ المؤسسات الإعلامية وبكلّ فضاء عمومي.كلّ يغنّي على ليلاه ! لكن ما يسترعي الانتباه هو ما يدور بوسائل الإعلام وخاصة التكرار المتعمّد لسؤال مفتوح أو موجّه - وفق قدرات الضيف وموقع الحزب - حول مسألة يراها البعض محورية ألا وهي"هيبة الدولة".عند طلب المنشّط الإعلامي من رجل السياسة عن أولوية برنامج حزبه يستشفّ المتلقّي ارتباك الضيف المتحزّب لأنّ مسألة"هيبة الدولة"هاجس حزبي صعب المنال،ويعي بأنّ الذهن خالي التفكير بحكم الجُمل المحفوظة للترديد، ويتخيّل أو يرى اللّعاب متطايرا يكاد يتعدّى غشاء جهاز التلفاز أو المذياع للقول بأنّ الحزب مصمّم على إعطاء الأولوية لهيبة الدولة المفقودة – وكأنّ للدولة السابقة هيبة سابقة !..كلمة حقّ يُراد بها باطلا !لفهم هذه الانفعالات وجب العودة إلى مفهومي الـ"هيبة" والـ"دولة"وعلاقتهما بخيارات وأولويات تلك الأحزاب السياسية.
يقال:"خاطب الجمهور بهيبة أي باحترام وإِجلال"..ويقال:"هاب الرّاعي بغنمه أي صاح بها لتقف"..كما يقال:"هاب الطالب أستاذه أو من أستاذه بمعنى عظّمه ووقّره وأجلّه"..فالهيبة إذن هي مؤشر معنوي لذات شخصية أو معنوية،زئبقي التفسير فهو تارة جالب للاحترام إلى حدود الرعب وتارة أخرى فارض للتّبجيل إلى تخوم التّقديس.أمّا ركائز الهيبة فتكمن في آليات الحكم والتصرّف،وفي التّمشي المعتمد عند اتخاذ القرارات الهامة،وفي القدرة على الإنصات والإقناع،وفي مدى الالتزام بإنجاز الوعود.إذا للهيبة أطياف متعدّدة محصورة بين طيفي التّبجيل والتّقديس يمكن أن تتمظهر بألوان قزحية تتراوح بين الاحترام والرعب.أمّا الدولة،كما حدّد مفهومها أغلب المفكرين،فهي ذات معنوية مجسّدة لغاية التّبسيط بثالوث الفضاء الحياتي حيث الموارد الطبيعية،والمواطنون بما لهم من حضارة مشتركة ومصالح متقاطعة،والمؤسسات التي يدير من خلالها المواطنون شأنهم العام.
إنّ التّاريخ ينبّه بأنّ هيبة الأشخاص والدول لا تُفرض بالإرهاب والقمع والتّقديس بل تُقبل بالقول الصادق والفعل الحسن.
لسائل أن يتساءل عن الكيفية المثلى لتأسيس"هيبة الدولة".أخذا بعين الاعتبار لمفهوم الدولة الذي سبق فهيبة الدولة من هيبة مواطنيها وأساسها حسن التصرف – إنتاج وتقسيم - في الموارد الطبيعية وفرض السيادة الفضاء الحياتي لا بإرهاب المواطن ونشر قواعد التّقديس وخرق قواعد التسيير التشاركي.إذا أراد البعض رتق هيبة الدولة المفقودة منذ عقود عليه بتطبيق أنفعها أي تلك المبنية على احترام كلّ المسؤولين بالمؤسسات – عمومية أو خاصة - لكلّ مقتضيات التصرف الحكيم في الثروات لتحقيق شروط الرّفاه المادي وغير المادي وتقديم أحسن الخدمات لكلّ المواطنين وفي آجالها المعقولة بدون محاباة وفساد.هيبة الدولة تُبنى باحترام المسؤول التشريعي والتنفيذي والقضائي لكلّ بنود الدستور وإنجاز الحزب أو التوافق الحزبي للجزء الهام من الأولويات الشعبية.لكن لا يخفى على أحد أنّ المواطنون عدد من الأشخاص ينتمون إلى فئات عديدة متقاطعة المصالح وهي في أغلبها متضاربة مع مصالح فئة قليلة العدد مستحوذة على جلّ الموارد الطبيعية وتنعم بفوائض قيمتها وهي المتحكّمة بكلّ المؤسسات الدستورية والإدارية إلى حدّ التّماهي مع مؤسسات الدولة.من هذه الزاوية نرى أنّ هيبة الدولة مشروطة بإعادة النظر في منوالي الحكم والتنمية.
يعتبر البعض أنّ هيبة الدولة في علاقة وطيدة بالقانون والمؤسسات وهي عنوان للانضباط والطاعة.
تتصور أغلب الأحزاب الليبرالية التي تتّدعي الديمقراطية أنّ هيبة الدولة تكمن في التأسيس لاستقرار مناخ النهب تحت يافطة "توفير المناخ للإستثمار والتشغيل".فهيبة الدولة التي يقصدها هؤلاء هي مقايضة المواطن المهمّش والمعطّل – وهم الأغلبية - بين الاستكانة لتوفير مواطن الشغل وتعديل الأسعار أو العنف "الشّرعي" والإرهاب الغير شرعي والفوضى.فهذه الأحزاب ترى هيبة الدولة من خلال تكبيل الأيادي لكي لا ترفع شعار"ديقاج"أمام كلّ مسؤول خرق بالقانون وأضرّ بالمؤسسات وأخلّ بوعوده فهو واهم..لكلّ من يُزوّق هيبة الدولة بالعنف لغاية غلق الأفواه حتى لا تنادي بشعار"التشغيل استحقاق يا عصابة السّرّاق"فهو ظالم..من يفترض فرض تشييد البنية التحتية لتسهيل المتاهات البرية والبحرية والجوية أمام عصابات النّهب المحلية والأجنبية بقروض مغرضة فهو حالم..لكلّ من يظنّ أنّ هيبة الدولة في المنشآت والتجهيزات القمعية عوض تشييد المنشآت الصحية والتربوية والمائية فقد أساء الظنّ.فكلّ حزب سياسي يروم التأسيس لهيبة الدولة عليه باعتماد الحوكمة عوض الحكمة والحكم المسقط بأن يراجع رؤيته لمنوالي الحكم والتنمية(الحوكمة)حتى يسهل عليه إنجاز أولويات الأغلبية المهمّشة في المكان والزمان المسطّر وأن يعتمد على الموارد الطبيعية والبشرية المتوفرة بالبلاد وإلاّ فإنّه لن يقدر على ذلك فتصبح الدولة محلّ انتقاد لا قدوة،ومحلّ عدم احترام لا حُرمة،ومحلّ كنس لا تقديس.وإن رام بعض الأحزاب أو التحالف الحزبي استعمال نهج التقديس للشخص الكاريزمي والخضوع للمؤسسات التي لا تأبى إلاّ تأبيد الأوضاع بحكم استحالة استقلاليتها-لأنّ من أسس هيبة الدولة في ذهن هؤلاء إخضاع المؤسسات والأفراد- فإنّ وسيلته لن تكون غير العصا الغليظة وتلك سياسة لها ارتدادات لا تُحمد عقباها،لذلك نرى الإرباك عند المحاورات الإعلامية حول مغزى وآليات"هيبة الدولة".
لهذا وذاك وجب التفكير في منوال يعتمد الجهة –ثروات خصوصية،تركيب سكاني خصوصي- كفاعل أساسي عوض المؤسسات الجهوية الخاضعة لسلطة الحكومة المركزية  أو لصاحب رأس المال.لا يجب أن يغيب عن ذهن كلّ مهتمّ بالشأن العام أنّ كلّ مواطن-مهما كانت الفئة التي ينتمي إليها-هو منتج ومستهلك في ذات الآن لعدد هام من الإنتاج – مادي وغير مادي- وفق قدراته الجسمية والفكرية والمالية ولكلّ أولوياته الاستهلاكية.لذا فهذا البُعد له أسس تاريخية جهوية –أنتروبولوجية،طبيعية-وهي مبرّر آخر لإعادة التقسيم الجغرافي حتّى نقطع مع النّهب الجهوي والإقصاء الفئوي.الجهة فاعل أساسي يعني تشريك المواطن في التصورات والإنجاز لتثمين الموارد المتوفرة وتقرير كيفية تقاسم فائض إنتاجها وفائض قيمتها بالتوازي مع استرجاع الدولة لوظيفتها الاقتصادية والاجتماعية لتوفير كلّ شروط النّماء الشامل بالجهات وخلق ديناميكية بين الجهات والمحيط الإقليمي والكوني.هذا التصور يفترض إعادة النظر في التقسيم الفضائي الحالي،القائم على أساس أمني(عنف)ومركّز(استحواذ ونهب)،حتى يتسنّى إقامة مؤسسات جهوية بإشراف وزراة التنمية الجهوية،فتكون بذلك كلّ المندوبيات الجهوية وتوابعها المحلية(فلاحية،صناعية،سياحية،ثقافية،تربية..الخ)والمؤسسات الخاصة الجهوية وفروعها المحلية(إنتاج،خدمات)وكلّ خلايا المجتمع المدني المحلي والجهوي(جمعيات،أحزاب،نقابات،مجالس محلية وجهوية منتخبة)في علاقة تشاركية هادفة تجلب احترام الجميع وتضمن هيبة المؤسسات وتحترم قوانين لأنّ المواطن جزء منها،مساهم في تسييرها وفي صياغة آلياتها وهادفة للنماء الشامل.
-ع.ب.ق-





dimanche 13 novembre 2016

هيكلة أراضي الدولة الفلاحية...بين الجدوى والشرعية -- د.عبد المجيد بنقياس

كثر الجدل في الآونة الأخيرة عن أجدى الطرق لفلح أراضي الدولة الفلاحية.هذه التي يكاد لا يذكرها المجادلون إلاّ أياما قبل عيد الاضحى وخلال شهر رمضان.لا لوم على السياسيين لأنّ لكلّ مشروعه الشامل وزاوية نظره للمسألة الزراعية بصفة عامة وللأراضي الدولية بصفة خاصة،لكن اللوم موجّه للمتشدّدين الموالين لهذا الرأي أو ذاك دون معرفة بالموضوع ولا حتى أدنى إلمام به،وقد غلب عليهم التفاعل الحسّي،مساندة أو معارضة،أكثر منه تفاعلا عقلانيا.في المقابل نادى عديد الخبراء بضرورة البحث عن منوال بديل،منوال حكم ومنوال تنمية يؤديان إلى التأسيس للحوكمة الجدية وذات الجدوى القصوى.وقد اجتهد بعضهم وقدموا تصورات قابلة للإثراء والتعديل،لكن لا وسائل الإعلام فتحت لهم الأبواب ولا جلّ الأحزاب عزمت على الخوض فيها،باستثناء بعض الجمعيات والصحف المكتوبة.
يظهر أنّ الخوض في مسألة الأراضي الدولية غير ممكنة دون تحديد الإطار الشامل والتوجهات العامة في علاقتهما بسقف شعارات الحراك الثوري،ما دام الكلّ بدون استثناء يدّعي العمل من أجل تحقيق أهدافه.فالإشكال جوهري باعتبار علاقته بالسيادة الوطنية على ثروات البلاد،وباعتبار ارتباطه العضوي بالسيادة الغذائية التي تمثل أهمّ صواري هذه السيادة.وتبدو أهمية الموضوع كذلك باعتبار علاقته العضوية بمسائل حقوقية(حقّ في تقاسم الثروة-واجب مقاومة الاحتكار)واجتماعية(عدالة،شغل)وقانونية(مجابهة الفساد من محسوبية وتبييض أموال وتهرّب جبائي).
بعض المؤشرات وزاوية النظر
للإحاطة أكثر بالموضوع،وتجنّبا للتفاعل الحسّي والجدل العقيم،وجب التذكير ببعض المؤشرات حتى يقع تنسيب التفاعل والتوجهات.إنّ هذا الجزء من الأراضي الفلاحية،الذي تقدّر مساحته بما يقارب الـ 10% من الأراضي الفلاحية الجملية بالبلاد التونسية،له قدرة انتاجية مماثلة لغيره من الأراضي المحيطة به،فجودة المردود تختلف باختلاف الموقع الجغرافي وباختلاف المسار التاريخي لكلّ ضيعة(نوعية النشاط،حجم الاستثمارات،الحزمة الفنية...).والعارفين بالنشاط الفلاحي يدركون معنى المقاربة المنظوماتية للضيعات الفلاحية التي تنصح بها الخارطة الفلاحية منذ سنوات خلت،كما نّهم يعلمون أنّ نجاح هذه الضيعة و فشل تلك لا يعود لسبب واحد(طريقة التصرّف)بل إلى أسباب متعددة،منها حجم ونوعية الموارد الطبيعية المتوفرة بالضيعة،أولا،والأصناف المنتجة المستعملة(نباتية وحيوانية)ومستوى الإدماج فيما بينها،وماهية وكمية المستلزمات المستعملة،ونمط التقنيات المتّبع،ومنسوب الطلب بالسوق،وآليات الدّعم وسياسة الأسعار المشرّعة.
تؤكّد إحدى الأطروحات،التي اهتمت بتقييم وتصنيف الضيعات الفلاحية العائلية بالبلاد التونسية،بأنّ الضيعات الوحيدة القادرة على الثبات،أمام المنافسة المرتقبة جرّاء اتفاقية الشراكة الأورو-تونسية،هي الضيعات المروية المختصة بإنتاج التمور،وخاصة دقلة النّور،وكذلك الضيعات الكبرى المختصة في إنتاج الحبوب،وخاصة القمح الصلب،بجهات الشمال ذات المنسوب المطري المحترم.لسائل أن يتساءل،ما سبب عزوف أبناء الفلاحين عن النشاط الفلاحي؟هل يُعقل أن يتشبّث الفلاح بأرض ذات مردود ضعيف؟ما سبب عزوف البنوك على تمويل الاستثمار الفلاحي؟ما هو السبب الكامن وراء ضعف التمويل الفلاحي(لا يمول البنك الوطني الفلاحي سوى 8 % من جملة الفلاحين بحجم لا يفوق الـ %18 من مجموع القروض المسندة)!ما هو السبب الكامن وراء ذاك الحجم الهائل من الديون الفلاحية؟للإجابة على هذه التساؤلات،يكفي أن يعلم البعض أنّ ضيعة تمسح 10هك وتعتمد النمط المطري - نمط يشمل 4/3 الضيعات الفلاحية - معدّل دخلها السنوي لا يفوق الدخل السنوي للعامل الفلاحي.
تفاديا الغوص بعيدا عن الموضوع المطروح،فالمنطق والتمشي العلمي يدعوان إلى تحديد زاوية النظر،التي لا نخالها غير تلك المحصورة بين خطّين متقاطعين،الأول منهما يمثّل المسار التاريخي لكيفية تشكّل ملكية الدولة للأراضي الفلاحية بينما الثاني يمثّل أفق المسار الثوري.من هذه الزاوية وباعتبار أنّ الكلّ لا ينكر استحقاقات الفاعلين في المسار الثوري وطموحاتهم يصبح  للأفق مكوّن أساسي هو الشرعية،هذه التي بطبعها لا تستقيم بالمحاباة(الشعبوية وجه من وجوه المحاباة)والتسلّط(القانون إحدى آليات الإفساد)ولا بالفوضى.بالتوازي مع تحديد زاوية الرؤية هناك ضرورة للتسلّح بالمعرفة والحكمة.فالمعرفة منارة للسبيل البديل،لأنها تسمح بالإطلاع على التجارب التاريخية،بينما الحكمة مثبّت للخطى،لأنها تفضي إلى معرفة خصائص المرحلة ومتطلباتها.لهذا وجب البحث،انطلاقا من تلك الزاوية وبالاتعاظ بالتجربة واستعمال العقل،لتحديد مدى شرعية ملك الدولة لأراضي فلاحية وأحقّية هذا أو ذاك بالتّصرّف فيه.

المسار التاريخي لتشكّل ملكية الدولة للأراضي الفلاحية
كانت أغلب الأراضي الخصبة بالشمال تحت تصرف البايات وحاشيتهم،وكانت الأراضي المشجرة(زيتون،لوز)تحت تصرّف الخاصة وفق نمط الاستغلال المباشر أو بالمغارسة.أمّا بقية الأراضي بالبلاد التونسية فقد كانت أملاكا في شكل حبس(1 مليون هك)أو ملك مشترك للعروش(3 مليون هك)مخصصة للرعي بالأساس.لكن ما إن حلّت فترة الاستعمار المباشر حتى بدأ العدّ التنازلي لانطلاق عملية نهب الأملاك تحت تعلات متنوّعة(تنموي-تقني،تشريع ديني).ففي 15 جانفي سنة 1896 صدر مرسوم يعتبر الأراضي"الميّتة"ملك للدولة ممّا سمح بسلب منطقة السباسب من أهاليها ومستغليها.وأردف هذا المرسوم بآخر بتاريخ 13 نوفمبر 1898 الذي وضع"جمعية الحبس"تحت إشراف إدارة الفلاحة والذي فرض أن تخصّص على ذمّة الدولة 200هك/سنة.أما أراضي العروش ذات الصبغة "الاشتراكية"فقد تحولت ملكيتها للدولة بمقتضى منشور صادر بتاريخ 14 جانفي 1901.هكذا استولى المستعمر على جلّ الأراضي الخصبة وتلك التي عرف بعد استكشاف أنّها ثرية بالمواد المنجمية.
من المنطقي والشرعي أن تكون أولوية الملكية لأصحابها الأصليون،أولئك الذين افتكت منهم تحت تسلّط البايات والمعمرين.لكن سياسيو ما بعد سنة 1956،فاوضوا المستعمر حول كيفية استرداد الأراضي،مفاوضات انتهت بالتوافق على التسليم بالشراء ! وبما أنّ خزينة الدولة التونسية تفتقد للأموال وقتئذ فالـ"حلّ" الذي قبل به الطرف التونسي أنذاك يكمن في أن تقرض الحكومة الفرنسية للحكومة التونسية قرضا،في إطار"المساهمة في برنامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد التونسية"،يوجّه لعملية اقتناء الأراضي من المعمّرين الفرنسيين وجبر الضرر الحاصل لهم !(اتفاقية 13 أكتوبر 1960 و 02 مارس 1963).وتمادى حكام تلك الفترة في الخطأ التشريعي بأن تابعوا السّير في النفق اللاّشرعي عوض السير نحو الأفق الشرعي،وهي خيارات كلّ متسلط،نفق حُشر فيه الأقربون جينيا وسياسيا وجهويا.وهو ما تمّ بعيد يوم 12 ماي 1963. 
يوم 12 ماي 1963،وهو اليوم الذي سُمّي بـ"عيد الجلاء الزراعي"،أصبحت الدولة التونسية مالك عقاري لما قدره 000 850 هك.خلال الستينات،وتحت يافطات عدّة(هبة لتعويض للمقاومين)،تمّ التفريط في جزء من هذه الأملاك الفلاحية،باتباع أسلوب المحاباة العائلية.بمثل هذه الطريقة وقع التفويت النهائي فيما يقارب الـ 330 ألف هك.أما البقية فقد وقع تحت طائلة التصرف وفق النمط التعاضدي- وحدات تعاضدية للإنتاج الفلاحي- أو تحت تصرف مؤسسات الدولة –ديوان الأراضي الدولية،مؤسسات تعليم وبحث وإرشاد فلاحي-.من سنة 1962 إلى سنة 1968 شهد إحداث الوحدات التعاضدية نموا كبيرا: من 15 إلى 348 وحدة # من 12068 إلى 378674 هك # من 971  إلى 29649 متعاضد.
بعد إفشال تجربة التعاضد الفلاحية،خلال السبعينات،ومع بداية تملّص الدولة من دورها الاقتصادية والاجتماعي،وجهت الحكومات المتتالية عنايتها لدعم قطاعي الصناعة والخدمات،واعتمدت صيغة التفويت في جزء من أراضي الدولة بطريقة كراء/بيع(قانون 25/1970).ثمّ،ومع بداية تطبيق حزمة الاصلاحات الهيكلية الخاصة بالفلاحة،والمضمنة ببرنامج الإصلاح الهيكلي،أصدرت التوجهات لإعادة هيكلة أراضي الدولة وإعادة النظر في الإطار التشريعي،ففتحت الأبواب للاستثمارات الكبرى في شكل شركات إحياء فلاحية،ذات مساحات شاسعة(1500-4500 هك/شركة)ولمدّة 99 سنة،ساهمت فيها الدولة،عن طريق البنك الوطني للتنمية الفلاحية بالشراكة مع بنوك تنمية خليجية(البنك التونسي-السعودي للتنمية،البنك التونسي-الكويتي للتنمية).إلى جانب ذلك أسندت رخص استغلال لمساحات هامشية للفنيين الفلاحين الذين خيّروا الاستقالة من الوظيفة مقابل كراء ما اصطلح على تسميته بـ"مقسم فنّي"لمدة 40 سنة،كما تمّ تسويغ مقاسم للفلاحين الشبان المتحصلين على شهادة في نشاط من الأنشطة الفلاحية وللمتعاضدين الذين حُلّت الوحدات التعاضدية التي كانوا ينشطون بها(مقسم فلاحي).أمام فشل أغلب شركات الإحياء الفلاحية،فشل لا يعود بالضرورة لسوء تصرف فني أو إداري بل إلى التقلبات المناخية وسياسة الأسعار المتّبعة وقتذاك،وقع الخيار على كراء أراضي الدولة الفلاحية لبعض من أصحاب رأس المال المحليين بالتوازي مع مواصلة تجربة المقاسم الفنية والمقاسم الفلاحية.كما أنّ الدوائر المسؤولة قامت بصدّ سياسة التفويت وذلك بإصدار القانون عدد 21/1995 الذي حجّر التفويت بالبيع،كما تمّت إعادة هيكلة شركات الإحياء بالتنقيص من مساحتها ومدة استغلالها(500-1500 هك/25سنة)وكذلك المقاسم المسندة للفنيين الفلاحيين(45-65هك/15سنة).
كلّ الإجراءات السابقة أدّت إلى الوضع العقاري الحالي (من جملة نصف مليون هك) :
ß    40% تحت تصرف الدولة:ديوان الأراضي الدولية،تعاضدية ،مؤسسات التعليم والتكوين والبحث الفلاحي- (200 ألف هك)؛
ß      على وجه الكراء(عقود كراء) :
o       32% مستثمرين كبار (308 شركة-160 ألف هك؛ معدل المساحة : 520 هك)؛
o       8 %  فنيين متخرجين من المعاهد الفلاحية (810 فني؛40 ألف هك ؛ معدل المساحة : 50 هك)؛
o       6 %للفلاحين الشبان وقدماء المتعاضدين (5200 مقسم؛ 30 ألف هك ؛ معدل المساحة : 5,75 هك).
o       14% للخواص بالمراكنة،أغلبها لفلاحين بالجهة (70 ألف هك).
ß    تذكير:فوّتت الدولة بالبيع والمحاباة  في ما يقارب الـ 330 ألف هك خلال ستينات القرن الماضي.
شروط إعادة هيكلة أراضي الدولة الفلاحية
بداية من 14 جانفي 2011،تعرّضت أغلب هذه الأراضي إلى النّهب وأتلف إنتاجها النباتي(رعي)وسرقت مواشيها(سرقة)،واستحوذ البعض على جزء منها بتعلاّت مختلفة.واستعملت السلطة الحاكمة القوة لبسط نفوذها على الأملاك العقارية الفلاحية حفاظا على ممتلكاتها وعلى ممتلكات المتسوّغين لأراضيها.إذا كانت قوّة السلطة في شرعية المؤسسات الحاكمة،فالمفروض أن لا تقمع الحريات بل تطلقها،وهو ما يمكن المجتمع المدني من التطور.كذلك فإنّ الانزلاق نحو طرق الاستحواذ على الملك الدولة(ملك الجميع)،لدليل على ضعف النضج المدني أو معاداة لنمط الدولة الاجتماعية،وهو ما قد يحيّد المسار الثوري إلى مسار شعبوي تغلب عليه الحماسة وتغيب المطارحة العقلانية والحكمة،وهذا انحراف قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه (مشكل بين الحكومة وجزء من المجتمع المدني،مشكل بين بعض العروش بالجهات،مشكل حول أصناف أخرى من أملاك الدولة.
هكذا أصبحت هيكلة الأراضي الفلاحية الدولية موضوع جدل ممّا دفع بالحكومة للمشاورة حول أحسن السبل لإرساء حوكمة مجدية.فما هي شروط الحوكمة المجدية؟للتأسيس الحوكمة المجدية يجب أن يصبغ التصرّف بصفة الشرعيّة والمسؤولية  وأن تعمّ روح التضامن خدمة المصالح العامة.
لا معنى للحوكمة المجدية إذا كانت لا ترنو إلى تحقيق جملة من الأهداف،منها:
ß    هدف حقوقي يرنو إلى إرجاع الأصول العقارية لأصحابها الأصليين أو ورثتهم.لكن الكلّ يدرك صعوبة التمحيص والتقرير في هكذا سجلّ عقاري،كما يدرك المخاطر الاجتماعية التي قد تنجم عن هذا التمشي.فالصراع بين العروش قد شهد بعض المقدّمات ذات الأفق الانشطاري الخطير،خاصة في ظلّ توفّر كلّ شروط العمل الإرهابي.فسلاح الحقّ مهزوم لا محالة أمام قوّة السلاح !
ß    هدف اقتصادي يشمل منظومات وآليات الإنتاج والتوزيع.لكن من أسس المنوال التنموي الفاشل هي تلك المقاربة القطاعية الانعزالية حيث بات الاقتصاد التونسي بوابات ونوافذ قطاعية غير مندمجة لا تخضع لحوافز و/أو مكابح موحدة تضمن السيادة،بما فيها السيادة الغذائية؛
ß    هدف اجتماعي يطمح إلى خلق مزيد من مواطن عمل  وتحسين ظروف العمل الفلاحي؛
ß    هدف بيئي يعنى بالحفاظ على التوازن البيئي ويسعى إلى تثمينه؛
ß    هدف سيادي،لأنّ الدولة ترنو الحفاظ على وظيفتها الاجتماعية بأقل التكاليف،عليها أن تحافظ على مواردها وخاصة العقارية منها،لأن حجم دور الدولة الاجتماعي في علاقة عضوية بحجم الموارد المتاحة.كما أنّه لا يفوت العاقل بأن لا فوائد ترجى من مشاريع أو برامج ينوّب للإشراف عليها من يناهضها.
لهذا وذاك وجب إعادة النظر في صفة الفاعلين المفترضين والآليات لتأسيس الحوكمة المجدية لملك الدولة الفلاحي،حوكمة تراعي كل ما سبق ذكره وتبعد عن الطوباوية والفوضى قدر الإمكان.
من البديهي أن تنسج الحوكمة من ألياف شرعية التي تقطع مع المحسوبية والفساد وتفتح الآفاق أمام الشباب المعطلين عن العمل،وهي منفذة التصفية الأولى،تليها ثانية،تكمن في مدى قدرة الفاعلين على تحمّل المسؤولية للاستثمار فيما يصبو لتحقيق الأمن الغذائي وتثمين الموارد المتاحة والحفاظ على البيئة الحاضنة.أما البُعد التضامن فهو في علاقة عضوية بمبادئ الشرعية والمسؤولية.فإذا كان المطلب الوطني(الشرعية)يقتضي القطع مع دابر المال الفاسد فلا بدّ إذن من إقصاء أصحابه وكلّ مريدي تبييض الأموال،كما أنّه من الضرورة بمكان توفير كل شروط النجاح(المسؤولية)لتحقيق غايات الهيكلة المرجوة التي تقطع مع التشتيت العقاري للضيعات الفلاحية.فمن المكابح،أو اللاّءات،التي وجب تفعيلها ما يلي: (i)لا لخوصصة ملك الدولة من العقارات الفلاحية ؛ (ii)لا لتشتيت الملك العقاري الفلاحي؛ (ii)لا لفاعلين من غير الوسط الفلاحي؛ (iii)لا مجال إلاّ للشّباب.
كلّ الخبراء والفنيين متفقون على التأثيرات السلبية لتشتيت الملكية العقارية الفلاحية،سواء كانت خاصة أو عمومية،ويحذّر النّيرون منهم من مسار تكثّف(تركّز)الملكية العقارية بين حفنة من الملاكين الكبار(محليون أو أجانب).بما أنّ فوبيا التعاضد لازالت متملّكة بالعديد وفوبيا الخصخصة متملّكة من البعض الآخر فإنّ أجدى السبل يكمن في الحفاظ على ملك الدولة الفلاحي مع تغيير في سبل الاستغلال لضمان جزء مهمّ من الموارد الذاتية لخزينة الدولة.فإذا كان لا بدّ من تطبيق شرط برنامج الاصلاح الهيكلي القاضي بتقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي فهناك امكانية الالتفاف على هكذا شرط بتسويغ الأراضي الفلاحية الدولية - وفق شروط اقتصادية واجتماعية – للشباب،دون غيرهم،من خرجي المعاهد العليا الفلاحية(السنّ بين 25-35 سنةكفاءة مهنية)وإلى الشبان الريفيين من أصحاب الشهائد المهنية(السنّ 18-35 سنة – تأهيل مهني).من الشروط الأساسية أن لا ينتفع أكثر من شاب واحد من العائلة الواحدة التي لا تملك ضيعة فلاحية أو لا تفوق مساحة أرض والديه الـ5هك،مع إعطاء الأولوية لأبناء الجهة،حيث تقع الأرض المعنية.كما أنّه من الضروري القطع مع تشتيت الملكية وذلك بالتأكيد على شرط إحداث مقاسم جماعية لا فردية،في شكل تعاونيات،عدى الضيعات الصغيرة والمعزولة.طبعا،يجب أن تكون المساحة المكتراة ضامنة للجدوى الاقتصادية وذلك وفق خصوصيات الجهة والموارد والمكونات المتوفرة،وأن لا تقلّ مدّة الكراء عن الـ 30 سنة حتى يتسنى لكل منتفع ببلوغ سنّ التقاعد.بهكذا شروط يقع استبعاد المستثمرين الكبار- محليين أو من الخارج -عكس ما يريده الصّائغون لمجلة الاستثمار والمروّجون لمشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمّق.بهكذا تمشّي يفتح باب العمل أمام جزء هام من أصحاب الشهائد العليا ومن الشبان الفلاحيين.
إنّ الغاية من هكذا تمشي تفوق هدف تشغيل الشباب إلى إرساء تقاليد النشاط التعاوني من خلال الإشعاع على المحيط.فنجاح هكذا تعاونيات فلاحية شبابية على أراضي الدولة الفلاحية يمكن أن تحفّز الفلاحين الصغار والمتوسطين على الانخراط في هكذا مسار،خاصة إذا توفرت الحوافز المالية،وتغيرت سياسة الدعم والتسعير وفُتحت،أمام التجارب الناجحة،نوافذ الإعلام والندوات والبحوث الاجتماعية والفنية...الخ.
الفرضية التقنية...التعاونيات الفلاحية
لو يقع اعتماد مساحة الأراضي الدولية التي لازالت على تحت تصرّف الدولة ودون احتساب تلك التي على ذمّة المعاهد الفلاحية ومراكز التكوين والبحث والإرشاد،أي اعتماد المساحة المقدرة بـ 200 ألف هك فقط،وإذا اتفق على أنّ الزيادة في معدّل المساحة بنسبة 20% للمقاسم الفنية و 67% لمقاسم الفلاحين الشبان لضمان الجدوى الاقتصادية والمالية،مع تبجيل للشباب الريفي على الفنيين باعتماد ضارب 3 خلال إحداث التعاونيات(3 تعاونيات للشبان الفلاحيين  مقابل 1 تعاونية للفنيين)،وبعملية بسيطة يمكن أن نحصل على ما يلي:
الفرضية
فنيين (6 شركاء/تعاونية * 1 تعاونية)
فلاحين شبان (6 شركاء/تعاونية * 3 تعاونيات)
المساحة هك
60*6=360
156*=90
عدد التعاونيات
185
1482
عدد مواطن الشغل
1111
8889

يمكن اعتماد خطّة خماسية تسمح بإحداث 37 تعاونيات للفنيين و296 تعاونية للفلاحين الشبّان/سنة/5سنوات (من 2017 إلى 2022)،وقد يكون النسق السنوي أسرع إذا اقتضى الأمر ذلك وتوفرت الإمكانيات الإدارية وحسن التنسيق.طبعا سيكون حجم المنتفعين كبر لو اعتمد نفس التمشي على أراضي الدولة المصادرة وعند تقليص مدّة الكراء(من 99 إلى 40 سنة)التي ينتفع بها عديد شركات الإحياء.
بهكذا تمشي،يقع قطع الحنفية التي ينساب منها رأس المال الاحتكاري والباحث عن تبييض سواد مسالكه وكذلك القطع العملي مع ما استنبطه صائغي مجلة الاستثمار وما قد يمليه الاتحاد الأوروبي من خلال اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق.في المقابل يشرع هكذا تمشي الأبواب أمام الشباب من أبناء الفلاحين والفنيين أصحاب الشهائد من ذوي الإختصاص مع تفادي الخصخصة ومنع تشتيت الملكية.
الاقتصاد التضامني/الاجتماعي والمنوال التنموي البديل
خلال الجدل التي جدّ مؤخرا حول"ضيعة جمنة"،أكّد العديد على ضرورة الحفاظ على ملك الدولة مع امكانية إرساء  قواعد الإقتصاد التضامني.لهذا،ألا يستدعي الاقتصاد التضامني الاجتماعي تحديد ماهية الفاعلين،ومصادر التمويل(مؤسسات تضامن للتمويل-صندوق تنمية)،ومسارات التوزيع والتبادل،والمستهلكين(الحثّ على التسويق والتّسوّق المحلي).إنّ هذا النمط الاقتصادي هو اقتصاد موازي بطبعه،على عكس نمط اقتصاد السوق السّائد،من مبادئه التبادل لا المتاجرة والمضاربة لأنّه بالأساس نشاط غير ربحي،فهو ضامن للعيش الكريم ليس إلاّ. لذا لسائل أن يسأل:
1.      لماذا ينادي البعض بضرورة كسر دورة الاقتصاد الموازي هنا وينادي بضرورة تشجيع الاقتصاد التضامني هناك ؟
2.      ما المانع من تطبيق نفس التمشي على موارد عمومية أخرى(مناجم،غابات،ملاحات،شطوط)؟
3.      هل يستقيم هذا النمط الاقتصادي دون إعادة النظر في الموقع الذي يجب أن تتبوأه الفلاحة ككلّ،ودون النظر في هيكلة كلّ الأراضي الفلاحية(عامة وخاصة)ودون استصلاح الأراضي المهملة ؟
4.      ما رأي البعض في مجلة الاستثمار التي تبيح للأجنبي حقّ التملّك-وإن وقع التدارك بالنسبة للأراضي الفلاحية-وفي فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي في النشاط الفلاحي؟
5.      ما رأي المصابين المتصابين ممن يساند التصور ونقيضه وفق طبيعة النشاط الاقتصادي ووفق علاقتها بالمصالح الشخصية؟
6.      ما الذي يمنع البعض،أحزاب وناشطون بجمعيات تنموية وشخصيات،من المناداة بضرورة التأسيس لنواة الاقتصاد التضامني؟
7.      ما الذي يمنعها من الدعوة والتحسيس لتأسيس نظيرتها على الأراضي الخاصة التي تشهد التشتّت المتواصل؟
ألا يعتبر كلّ ما سبق حزمة مفاتيح أساسية للبدء في تفكيك منوال فاشل وترتيب آخر  بديل أنفع للأغلبية الساحقة من الفئات المهمّشة؟قد يجيب البعض باستهجان على هكذا أسئلة،خاصة أولئك الذين وجدوا راحتهم صلب المنوال الحالي-وهذا من حقّهم- ومن طرف الفئات التي لا معرفة لها بأهداف وآليات المنوال الحالي وكثير منهم مستفيد،والذين لا اجتهاد لهم سوى البحث عن المصلحة الخاصة لا أكثر.
قد يغضب الاقتراح الخاص بأراضي الدولة الفلاحية البعض،كما قد يتفاعل معه البعض الآخر بكلّ إيجابية وروح نقدية بنّاءة.كما قد تحفّز الأسئلة الخاصة بالاقتصاد التضامني بعض الهمم،وقد لا تروق للابسي تلك النظّارات ذات المعدن الليبرالي،هذه التي تحجب رؤية البديل !