samedi 9 novembre 2013

سيارة الإسعاف ومسارات الالتفاف -عبد المجيد بنقياس-



أكّدت كلّ العلوم على اختلاف فروعها على أنّ مبدأ التناقض يلازم كل حركة،كما أثبت تاريخ الشعوب أنّ لكلّ ثورة نقيض.لدراسة الحراك الاجتماعي والسياسي بتونس لا بدّ للملاحظ والباحث أن يضع نصب أعينه هذا المعطى العلمي والحضاري.لهذا سنحاول أن نرصد أهمّ المنعطفات المعطّلة أو العمليات الالتفافية التي اعترضت مسار الحراك الاجتماعي والسياسي الذي انطلقت شرارته الأولى ذات يوم 17 ديسمبر 2010

باعتبار فجئية الأحداث التي جدّت بتونس اتبع كلّ فراد إحدى تفرّعات المسالك الثلاثة المتمثلة في المعارضة أو
المساندة أو المشاركة.من المسلك الاول هناك فئة اتبعت نهج التصدي الفعلي العنيف للحراك الاجتماعي بالانخراط صلب ميليشيات الحزب الحاكم وثانية أطلقت عنان اللسان والقلم للتنديد والتشهير والتشويه وثالثة متكونة من اتحاد الأعراف وبعض الأحزاب الكرتونية وأخرى تتدّعي الوسطية التي انتهجت سياسة النقد الليّن مع تقديم بعض الحلول الاجتماعية حتى يهدأ الحراك.في المسلك المساند هناك جلّ أفراد الفئات الاجتماعية المهمّشة بكلّ الجهات المنهوبة والأحياء الفقيرة وبعض الفئات المنتمية للطبقة الوسطى تحت لواء منظمات مهنية أو قطاعية أو حزبية تقدمية.أمّا مسلك المشاركة الفعلية فقد استحوذ عليه أغلب شباب جهات الوسط-الغربي قبل أن يلتحق بهم شباب جهات الجنوب-الغربي ثمّ صعودا من صفاقس الى العاصمة مرورا بالساحل التونسي وقد كان للاتحادات المحلية والجهوية دورا مهما للضغط على المركزية النقابية لاتحاد الشغل للتعجيل بالأحداث

ما إن تكاثرت الحشود المنادية بإسقاط السلطة وقبل الإعلان عن فرار رئيس الدولة حتى هبّت حشود الأحزاب والشخصيات والحكومات لتلتحق بطابور الانقاذ والاصلاح أولها تلك التي عمد البعض من خلالها التلاعب بالفصلين 56 و 57من دستور 1959 لضمان استمرار هرم السلطة بين أيدي الحزب الحاكم مع فتح الباب أمام بعض الأحزاب المهرولة  لإنقاذ السلطة تحت دواعي"الواجب الوطني"للمحافظة على سير دواليب الدولة،كما بادرت بعض الشخصيات التكنوقراط المأمورة من الدول الغربية بعرض خدماتها لـ"تقديم العون ودعم مسار الاصلاح الديمقراطي"!عند هذا المنعطف تحرّكت قوى سياسيّة،باستثناء أصحاب الحقائب الوزاريّة،من أجل اجهاض الحركة"الغنّوشية"مطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية بالتوازي مع المحاسبة لكلّ الأشخاص الذّين تثبت عليهم البيّنة في عمليّات أضرّت بالمِؤسّسات والأشخاص.في الأثناء،استقال البعض من الحزب الحاكم لإبعاد -
الشبهة وتنحّى البعض بتعلّة المصلحة العّامّة  >>> الحركة الالتفافية الأولى

أمام تواصل الحراك الاجتماعي والسياسي سقطت حكومتي"الغنوشي"مع بقاء بعض رموز حكومة"زعبع"في أعلى هرم السلطة أبرزها الرئيس المؤقت ليدير مسرحية مخرجوها قابعون وراء الستار،مع اسناد الدور الرئيسي لوزير أول مؤقت يجاهر بضرورة الحفاظ على هيبة الدولة لإنجاح"المسار الديمقراطي".في الجانب الآخر من الرّكح جدّت بعض الأحزاب بالبحث على اتفاق أدّى بها إلى ولوج قبة"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة".في خضم هذا الحراك وجدت وسائل الاعلام ورجال المال مادة تجميلية لدحض بعض ما التصق بها من أدران التطبيل والمناشدة.انتهى هذا  الفصل بالالتفاف حول"الهيئة العليا"لنسج شبكة قانونية وإجرائية للانتخاب مجلس تأسيسي مع إقصاء قضائي للحزب الحاكم.في ذات الوقت،تهاطلت الرخص الممنوحة للأحزاب والجمعيات الوليدة التي عملت على الفوز ببعض المقاعد داخل قبة المجلس التأسيسي مع دعم موازي لجمعيات أجنبية  تتدعي مسايرة"الاصلاح الديمقراطي بتونس"  >>> الحركة الالتفافية الثانية 

تواصل الحراك،لكن سرعة الالتفاف)1و2(كانت أقوى من أن تصدّ،نظرا لغياب العمق السياسي  والتنظيمي لهذا الحراك الاجتماعي من جهة أولى،والقدرة الزّئبقية الفائقة للقوى المضادة التّي تمتلك من الأدوات المادية،والدّهاء،والدّعم الدّاخلي والخارجي من جهة ثانية.أّوّل الوسائل التي استعملت هي الدّعاية الاعلامية المغالطة،بحيث صُنّف المسار بكونه عفوي وسلمي،في حين يعرف القاصي والداني حجم  الخسائر البشرية والمادية.فالإحصائيات والأحداث تؤكّد أنّ الحراك لم يكن سلميا إلا إذا اعتبر البعض أنّ دماء الشهداء والجرحى حبرا للمراسلات المخابرتية،وأنّ نهب وحرق المنشآت من قبيل التدريبات السرية.إنّ التأكيد على عفوية الحراك والتّركيز على سلمية الحراك غايته حشو الأذهان بأنّ التغيير السّلمي ممكن والتّحضير لطرح ثنائية المحاسبة والمصالحة لتبرئة ذمّة ناهبي  البلاد وقاتلي الشباب.لهذا فتحت أبواب الوسائل الاعلامية على مصراعيها لدعاة من يتصوّرون أنفسهم أهلا لمهمّة التّأطير مع إعفاء ظرفي لعناصر الحزب التّجمّعي ومواليهم من الأحزاب التّي اصطلح على تسميتها بالكرتونية.عند هذا المستوى من المنعطفات بدأت تتشكّل أمنية اليمين وتغيّر مسار اليسار.فالطّرف الأوّل عمل ويعمل على بعض الرّتوش السّياسي بتحالف أصبح مفضوحا بين بعض هذه الأحزاب وأشخاص عرف عنهم الفساد المالي والسّياسي إلى جانب البحث على بناء تحالفات سياسية مع أحزاب وليدة للتّجّمع الدّستوري.أمّا عن الأحزاب التّي تنعت بالوسطية واليسارية فقد سايرت هذه الخيارات السياسية بتعلّة المناورة والدّفاع عن أهداف الثّورة لمّا ارتأت ولوج القاعات والهيئات عوض التوجه الى الجهات والأحياء المنتفضة والانخراط بالمجالس الشعبية الجنينية.وقد وصل الصّلف ببعض هؤلاء الى حدّ التّنديد ببعض التّحرّكات التّي قام بها الشّباب والعمّال المنادية ببعض المطالب الاجتماعية والملحّة على ضرورة محاسبة رموز الفساد الاداري والمالي
أمّا المنعطف الثّالث لعمليّة الالتفاف فيكمن في المهادنة والمسايرة المطلقة لحكومة السّبسي وقد ظهر ذلك من خلال التّوافق الكلّي بين الهيئة العليا والحكومة المؤقّتة على رزنامة المسار السّياسي المتمثّلة في الاعداد لانتخاب المجلس الوطني التّأسيسي من خلال جملة مراسيم توافقية،تخلّلتها بعض المشاحنات والمشادات السياسية والإعلامية سيّئة الاخراج ومفضوحة المقاصد.عند هذا المنعطف تدخّلت أطراف أخرى لدعم قوّة الالتفاف اليمينية،أبرزها الأحزاب التّجمعيّة الأصل والمؤسّسة الأمنية وفيلق من الأفراد والجمعيات "المستقلّة".زيادة على هؤلاء رمى الاعلام بدلوه ليساند هذا أو ذاك وليحدث فتنة هناك أو هناك.لكنّ القاسم المشترك لكلّ هؤلاء يتمثّل في الوصول الى يوم الانتخاب الموعود والصّعود الى سدّة قبّة باردو لصياغة دستور البلاد >>>> الحركة الالتفافية الثالثة

لكن،بما أنّ الغاية هي سياسية بحتة والانتخابات وسيلتها والدّعاية رافدها،وفي ظلّ غياب البرامج وانعدام البدائل،أصبح دور المال السياسي أساسي لتسويق القائمات والأفراد.هنا يكمن الوجه الرابع للالتفاف على مسار الحراك الاجتماعي.كلّ الأحزاب السياسية،مع بعض الاستثناءات،وبعض الجمعيات وكثير من القوائم المستقلّة لهثت وراء الدّعم المالي لشراء الأصوات والذّمم.فأضحت العملية تجارية بالأساس،وتقاطعت المصلحة السياسية بالمصلحة المالية.عند هذا المفترق الرابع التقى"اليسار" بـ "اليمين"،وتشابكت المصالح وزاد النّفاق السّياسي لأنها أحزاب تسترشد بقاموس يصنف المواطن في خانة الأرقام(رقم انتخابي)والبرامج في خانة البضائع القابلة للبيع بالمزاد العلني أو خلسة في الجلسات السرّية.الأدهى وأمرّ،أنّ الأحزاب التّي كانت تلوم البهرجة والإسراف والإجراءات العنيفة خلال الحملات الانتخابية النوفمبرية،انخرطت في هكذا بهرجة وإسراف وهو ما يوحي بإمكانية تبرير كلّ التّصرّفات القمعيّة السّابقة وإمكانية انتهاجها مستقبلا.ً >>> الحركة الالتفافية الرابعة

 يمكن اختزال الفترة الممتدة بين 14 جانفي-23 أكتوبر بالمقولة المتداولة"ما أشبه اليوم بالبارحة"!وذلك عندما نقرأ ما كتبه)وول ديورانت(في موسوعته الشّهيرة)تاريخ الحضارة(عند وصفه للجوّ الانتخابي بروما في بداية عصرها:"أما العّامة فكانوا يطلبون أن تتاح الفرصة لذوي المواهب والكفاءات،وأن تكون السّلطة كلّها في يد الجمعيات..وانتشرت وكالات لبيع الأصوات العامّة في الانتخابات وارتفعت عملية ابتياع الأصوات حتّى تتطلّب درجة كبرى من التّخصّص..المشترون والوسطاء والحرّاس"

بعد انتخابات أكتوبر 2011 تزايد الحراك داخل كل فضاء،في ذهن الأفراد والجماعات،داخل البيوت ووسائل الإعلام،في الشوارع والمؤسسات،لكن السّمة الرئيسية للحراك واضحة بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي باعتبار هموم الفئات.فالفئات المهمّشة وتلك العاملة في ظروف صعبة همّها اجتماعي بالأساس،وقد عبرت عن ذلك منذ انطلاق قطار الحراك الثوري في حركة سريعة وعفوية مشابهة لحركة كفّ اليد التي يكيلها الفرد لغريمه،رافعة شعار"ديقاج"و"واجب إسقاط النظام"وهو ما يعني كنس وتفكيك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى الوضع المزري الذي عرفته البلاد.في الجانب الآخر تحركت القوى المضادة رافعة شعارات سياسية باحثة عن مساحة أفضل للحريات العامة والفردية،شعارات سياسية تتخللها بعض الفواصل من المطالب الاجتماعية غايتها سوقية بحتة لربح أصوات الفئات المحرومة والمهمّشة.وقع عديد المواطنين(48%)في الفخ عند مجارات المسار المضاد،بعضهم عن حسن نية تحت تأثير إعلامي وسياسي مبرمج،والبعض الآخر وقع فريسة لخداع برامج الأحزاب والجمعيات المتنافسة.مرت سنتان دون أن يصل قراصنة باردو و قرطاج إلى البدء في إنجاز المهمات التي أوكلت لهم،وركزوا أنشطتهم على التمركز على كراسي لم يكونوا مهيئين للجلوس عليها.بعض البوادر توحي بمحاولات التخطيط الزئبقي لأجندة انتخابات قادمة،إن كتب لها أن تجرى،باتّباع استراتيجية هدفها التمركز في السلطة السياسية مع بعض الرتوش الدستوري،مبنية على قراءات ضيقة الآفاق ووعودا ملؤها النفاق وأنشطة السراق.ما يعوز هؤلاء يكمن في انعدام الإرادة الحقيقية لتغيير المنوال التنموي والسياسي وغياب الجرأة في النقد والنقد الذاتي لتصحيح المسار.كثرت المفاجئات،أولها نسبة المقاطعة التي  فاقت الـ 50% مع فوز عريض لحركة"النهضة"و"العريضة الشعبية"بعدد هام من المقاعد قابلها هزيمة كاسحة للأحزاب الوسطية و"اليسارية".كما شهدت البلاد منذ ذاك التاريخ عديد الانسحابات والتكتلات الحزبية تحضيرا للمراحل الانتخابية القادمة(بلدية،برلمانية وربما رئاسية)ولا زال الجدل قائما حول فصول الدستور المرتقب وحول مرامي التعيينات التي قامت بها حكومة"الترويكا".في ذات الزمن،تكاثرت حركات الاحتجاج ذات المطالب الاجتماعية الواضحة (الشغل للمعطلين،العلاج لجرحى الثورة،التعويض للمتضررين من الجوائح الطبيعية)والسياسية(محاسبة رموز الفساد،اقصاء التجمعيين من الحلبة السياسية(والمالية)عدم خلاص أو جدولة الديون الخارجية،استرداد الأموال المنهوبة،مصادر القروض المالية) والاقتصادية(دفع الاستثمار)والأمنية(محاسبة القناصة،حل شبكة البوليس السياسي).لكن جلّ هذه التحركات المطلبية جوبهت بالتنصل من الوعود وبالقمع والمقاضاة بل تجاوزت الأوضاع عديد الخطوط الحمراء بدءا بالاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية الممنهجة 
إلى جانب كل ما سبق ذكره،رمت بعض الأحزاب بدلوها في الحياة الجمعياتيّة قصد محاصرة بعضها(جمعية القضاة،جمعية الصحافيين،جمعية النساء الديمقراطيات)واستقطاب البعض الآخر(جمعية المعطلين عن العمل،جمعية شهداء وجرحى الثورة)وتكوين جمعيات ذات الشأن التنموي والاجتماعي 
في الأثناء بدأت تتشكل حركة التفافية خامسة حيث انضم عديد الأشخاص والأحزاب والجمعيات التي ساهمت  في"العرس الإنتخابي"إلى صفوف الحراك الشعبي،في محاولة لركوب قطار الأحداث بهدف الوصول إلى مرحلة انتخابية ثانية منتظرة.فبعيد الاغتيالات السياسية تحركت بعض الجهات السياسية(الائتلاف الجمهوري،الجبهة الشعبية)في مسار اختاروا له من الأسماء:جبهة الانقاذ.بدأت هذه الأخيرة بمحاولة تحصين جماهيرية تمثلت في"اعتصام الرحيل"وانتهت بالجلوس حول طاولة"رباعي الدفع"للحيلولة دون انفلات الأمر والبحث عن توافق سياسي يضمن الظروف لـ"عرس انتخابي ثاني"سيتحول حتما الى اغتصاب دائم.>>>حركة التفافية خامسة)

لقد شهدت الساحة الوطنية حراك اجتماعي متواصل،برغم تواتر حدته في علاقة بزخم الاجراءات الحكومية،من  ناحية أولى،وبالونات اعلامية وأمنية وسياسية لخلق ستار ضبابي يمنع رؤية الفضاء السياسي حرصا على نجاح  مسار الالتفاف،من ناحية ثانية.لقد وصل الصّلف بالبعض الى كيل النّعوت السّيّئة للحراك الثوري،من قبيل"الثّورة  فوضى"و"الثّورة جمرة تحرق من قام بها"...الخ،وهو استهجان بالذين ضحّوا بدمائهم في سبيل انعتاق الجميع.أمّا الأغلبية التّي طال انتظارها،فقد عبّرت بطرق عدّة،لعلّ من أبرزها طرد المسؤولين الاداريين والأحزاب،وعدم الاقبال على التّسجيل بالقائمات الانتخابية،والعزوف عن الأحزاب...الخ.لازالت هذه القوى المهمّشة عصيّة على التّلاعب السّياسي وهي في انتظار كلّ من يبرمج ويخطّط لسدّ وصدّ المسار الثوري.بعض الأمل لا زال يراود القوى الحرّة في امكانية قيام بعض القوم،من أحزاب وأفراد،بعملية نقدية والرّجوع الى العمل لمجاراة الحراك الذي رسمته في شعارات واضحة وجلية،من بينها شعار:"شغل،حرية،كرامة".رغم الهزائم الكاسحة لم يقدم هؤلاء على تقديم نقد ذاتي موضوعي،مكتفين بنقد الآخرين وبذكر ندرة قنوات الاتصال مع الجماهير الشعبية.لم يفقه هؤلاء بعد،أن أولى الخطوات في اتجاه التأسيس لمجتمع أهلي تتمثل في تفكيك منظومة السّلط التقليدية،وكيفية تسيير المؤسسات الحكومية والخاصة،وصياغة تشاركية لإستراتيجية هادفة لاستغلال أمثل للثروات وحافظة للكرامة الوطنية وضامنة    لسيادة الشعب على ثرواته


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire