jeudi 4 septembre 2014

رجال الأعمال والشأن العام -- عبد المجيد بنقياس

إنّ موضوع العلاقة بين فئة رجال الأعمال والشؤون العمومية مطروح بشدّة هذه الأيام بمناسبة التحضير لانتخابات مجلس الشعب ورئاسة الجمهورية.بعد أن كثر الحديث عن دور المال السياسي وتأثيره في منظومة 23أكتوبر2011،وفي المشهد الإعلامي،ودوره في النّزوح الحزبي داخل المجلس التأسيسي وصلب الأحزاب والجمعيات،ها قد كثرت التعاليق والتجاذبات خلال الأسبوعين الأخيرين حول ذات الشأن لمّا عيّنت بعض الأحزاب على رأس بعض قائماتها الانتخابية التشريعية أصحاب نفوذ مالي معروفين باستثماراتهم بقطاعات اقتصادية استراتيجية إلى جانب تدخّل البلدان الأجنبية التي ترغب في فضاء مفتوح لأصحاب رؤوس الأموال من مواطنيهم.لهذا،ومساهمة في إنارة الرأي العام،وخاصة المتعلمين- باعتبار أنّ فحوى الخاطرة مكتوب وليس شفاهي-رأيت من الواجب الخوض في هذا الشأن لتوضيح مسألة فعالية الفاعلين في الشؤون العمومية من وجهة نظر تاريخية وأحقية بعضهم-رجال الأعمال-وحدود نشاطهم في هذا المجال.للتوضيح:إنّ ما سيرد أسفله بخصوص رجال الأعمال بتونس له بعض الاستثناءات النادرة.

لا يختلف إثنان في أنّ الشؤون العمومية،التي يريدها البعض مفردا(شأن عام)للتفرّد بها،هي أنشطة متعدّدة ومتشابكة تهمّ كلّ الناس غير القاصرين وقد تتناقض بعض مصالح الجمهور(أغلبية أهالي)مع بعض مصالح الخاصة لفئة قليلة.كما اتفق المفكرون في تصوّراتهم لصيرورة تشكّل الذوات المعنوية لإدارة الشؤون الجمهورية في ما عدى بعض الجزئيات التاريخية في علاقتها بخصوصيات حضارية تميّز بها هذا الشعب أو ذاك.فالعشيرة،والقبيلة،والعرش،والإمبراطورية،والحكومة القطرية،والإستعمار ذوات معنوية لتسيير شؤون عموم منظوريها وإن اختلفت طرق التسيير(تشاور،نيابة،تسخير،قوّة).

من المفارقات التاريخية أنّه كلّما تعدّدت المشاغل العمومية وتنوّعت كلّما تكاثرت تلك الذوات المعنوية وتمايزت واتجهت بالتشكل وفق منحى هرمي/عمودي شديد المركزة في أعلى الهرم عوض التوجه نحو هندسة أفقية تتوزع المسؤوليات بين خلاياها حسب المواقع والكفاءات والوظائف.لكن عديد المفكرين،من مختلف المدارس الفكرية والمناهل الإيديولوجية،لم يفُتهم تشخيص تلك الظواهر والمفارقات وتحليلها واتّفق جلّهم على أنّ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستفحال الاحتكار بالمجال التجاري والمالي هما القاطرة التي كان وراء مثل هكذا هندسة هرمية لإدارة الشؤون العامة،لأنّ محتكر وسائل الإنتاج وتجارة المواد والمال يعتقد أنّ الشؤون العمومية من توابع الشأن الخاص.فكبار مالكي وسائل الإنتاج،ومحتكري الأسواق،والمرابين،والكهّان،والملوك،والأباطرة،والغزاة كانت لهم نظرة دونية للأهالي القاطنين بمناطق نفوذهم وكانوا لا يعتبروهم غير رعاع قاصرين لا يحقّ لهم غير العمل للإنتاج المادي مقابل توفير الأدنى من أساسيات الإدامة من مأكل ومسكن وأمن.

رغم كلّ هذا لم يُغفل البعض من تسجيل أنشطة ذات بُعد إنساني قام بها عديد الأشخاص من ذوي النفوذ التجاري والمالي والمعنوي وصلت بالبعض منهم إلى حدّ مناهضة ماسكي الحكم المركزي.فالإنسان بطبعه يمتلك حسّ الانتماء والمسؤولية،ويتأثر بما يحدث بمحيطه من تغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية،ويتمتّع بحريّة نسبية في اختياراته،على عكس التشكيلات الأهلية(المدنية)التي عادة ما تكون متعدّدة الأطراف ذوي مصالح خاصة مما قد يؤثر على التوجه والسياسة العامة للتشكيل الأهلي؛ وهي تشكيلات معقّدة التركيب ممّا قد يعطّل سرعة القرار ويفقدها جدوى التسيير.لقد سجّل التاريخ،في عديد القضايا الإنسانية العادلة،تبني بعض من هؤلاء الأشخاص لمواقف إيجابية اعتبروها واجبا وقد انعكس ذلك من خلال مواقف سياسية جريئة وسلوك اجتماعي مسئول مساندا للحق ومستنكرا للإقصاء والتهميش والظلم.بالطّبع لم يكن قادرا على مثل هكذا سلوك ونشاط إلاّ أصحاب الجاه والأعمال.فكلّ شخص ينتمي إلى هذه الفئة الاجتماعية حرّ في توجهاته الاقتصادية والاجتماعية وفي توجيه أمواله لخدمة الأهداف التي يريد انطلاقا من قناعاته الشخصية،وتحلّ التقاليد والدين والمعتقدات كعوامل تأسّس طبيعة ميولاته وتوجهاته المجتمعية والاقتصادية والسياسية،وتحدد بالتّالي زاوية رؤيته التي بموجبها يتصرف في أمواله(هبة،تبرع،تبنّي،استثمار).لكن هذه الحرية لم تكن مطلقة بل مقيّدة بشرط الالتزام بعدم الخوض في مجالي السياسة والدين.فالكاهن الملك،والمُرشد الأمير،والإله الإمبراطور،والمُنقذ الغازي يعتبر هذه المجالات من اختصاص مؤسّسات الحكومة المختزلة في شخصه.لا يفوت التذكير بأنّ موقف الحكومات المركزية وأهدافها من هذه التشكيلات غير الحكومية(أهلية)تراوحت بين المنع والتّلجيم والقمع تارة أخرى،والتدعيم والتّحفيز تارة أخرى،وهو ما دفع ببعض الأشخاص للنشاط الفردي الذي كان أسبق في الظهور من التشكيلات الجماعية الاجتماعية والسياسية.

بالتـأكيد أنّ رجل الأعمال مُجبر بمسؤوليات اقتصادية واجتماعية باعتباره ذات بشرية تبحث عن الزيادة في حجم وقيمة الإنتاج.فالبحث الدؤوب عن تراكم الأرباح والرّفاهية لا يستقيم بدون استثمار قد يسهم في التخفيف من البطالة والحدّ من عبء الفقر وهو بذلك مساهم في تأسيس فضاء آمن نسبيا يستطاب فيه المزيد من الاستثمار.يطالب رجل الأعمال دوما بتوفير الظروف الأمنية كأولوية مطلقة للاستثمار- وهو نداء صريح للقمع والإقصاء الدّائم- حتّى يتسنّى له الإسهام في التنمية والقضاء على الظواهر الاجتماعية السلبية !ها إنّنا أمام معضلة الإجابة عن السؤال المشهور:"من الأوّل؟الدّجاجة أو البيضة؟".
للمحاججة:يا رجال الأعمال،ها قد حظيتم بتلك الأولوية،كفئة اجتماعية،طيلة قرون ونعمتم بالأمن والحوافز المالية والجبائية!..لقد غنمتم من مناويل الحكم والتنمية ما استطاب لكم(جاه،مال،رفاه...الخ.) !..يا رجال الأعمال المستثمرون بتونس،إنّ شعار الجمهورية التونسية القديم يفيد بأولوية أمنكم وحريتكم(نظام×حريّة×عدالة).لقد نعمتم وغنمتم طيلة مدّة تزيد عن نصف قرن!في المقابل ماذا غنم عموم الشعب؟لم يرى جمهور الجمهورية غير البطالة والفقر والخصاصة التي"أنعمت"بها الخصخصة واقتصاد السوق!
تربّعتم على عرش المال والأعمال وشرّعتم نهب خيرات البلاد لأنفسكم ولغيركم من الأجانب ووكّلتم من أردتم لإدارة شؤون البلاد الأمنية وها إنّكم اليوم تطمحون بالتوكيل الذاتي بانخراطكم بأكبر الأحزاب الليبرالية.إنّ توليكم تمويل الحملات الإعلامية والصفقات السياسية،وشروطكم للحيازة لبعض الكراسي النيابية بـ"مجلس الشعب"،وتسويقكم لرئاسة الجمهورية لمن تقدرون عليه ولمن يقدّر طموحكم إلا" دليل على ذلك.هذه شؤون عمومية ولكم الحقّ في ذلك لكن شروط الشرعية التي يتناساها البعض عظيمة.فما هي هذه الشروط؟
أوّل شرط ذو طبيعة دستورية ويكمن في التقيّد بالعقد المجتمعي الجديد من التوطئة إلى آخر فصل وخاصة تلك المتعلّقة بمسؤوليات الدولة وضماناتها تجاه الفئات والجهات والأجيال والبيئة لتحقيق سقف شعارات 17ديسمبر2010/14جانفي 2011.فمن أين لرجال الأعمال الذين ترعرعوا على الفساد والأنانية المفرطة والمنادين بخصخصة كلّ الثروة العمومية(طبيعية ومؤسساتية)وتسليع كلّ شيء بما فيها الذوات البشرية أن يحققوا ما يرنو إليه الدستور التوافقي !
ثاني شرط ذو طبيعة أخلاقية- روح تضامنية،نزاهة،نظافة السريرة،إشعاع – التضامن نقيض للأنانية وهو استعداد للتضحية ببعض "المتاع"الخاص(مادي أو غير مادي)للتخفيف من عبئ المآسي التي يعانيها البعض(فئة،جهة)ببعث المشاريع الإنتاجية والخدماتية والمساهمة في التأسيس لشبكات الاقتصاد التضامني والتضامن الاجتماعي والاستثمار غير ربحي في مجال الثقافة والعلوم.أمّا النزاهة و.و.و فتتمظهر في شفافية التعامل مع الأشخاص(عمّال،كوادر)والمؤسسات(منافس،جباية،إعلام،قضاء).فمن أين لرجل أعمال يتملّص من إعطاء حقوق الأجير وحقّ الدولة من أن يفيد في النيابة البرلمانية !؟..هل يمكن أن ننتظر من رجل أعمال متمّعش من مشاريع الخصخصة التي بدأها"زعبع"وزبانيته(بعضهم على رأس قائمات بأحزاب ليبرالية والبعض الآخر يرنو لرئاسة الجمهورية)أن يعارض مشروع مجلّة استثمار تبيح خصخصة المؤسسات العمومية وتستبيح ثروات البلاد !؟..وهل يمكن أن نأمل عكس ما يقوله المثل الشعبي:"فاقد الشيء لا يعطيه"في مجالي الثقافة والعلم !؟..

بالرجوع إلى مسألة"الدّجاجة والبيضة"،أترك للـ"مجراب اللّي تحكّه مرافقه"وبعض مرافقيه أن يجرّب الاحتكاك بهذا الموضوع ويعلّل الإجابة !

أمّا فيما يخصّ كاتب هذه الخاطرة،فيقول:إن كنتم في وضع"الدّجاجة"فاعلموا أنّكم مصابون بالعقم وإن كنتم في وضع"البيضة"اعلموا أنّكم بيضة عقيم !لا تسلكوا نفس المسلك القديم..لتعلموا أنّه قد حان عصر تأسيس المؤسسات الشعبية،لا بالمعنى الشعبوي،بل بمعنى مؤسسات عصرية في خدمة المواطن،تقاوم الفساد الإداري،والعبث المالي،والمحسوبية،والزبونية الذي كنتم بها تنعمون؛مؤسسات تسيرها مجالس بها كفاءات علمية وطنية لا من كفاءات الوصاية والتسويق..كلّ تونسي وطني وديمقراطي يطمح لاحترام الحريات الفردية والجماعية ويرغب في صون الكرامة الإنسانية التي لا تستقيم بدون مشاركة في إدارة الشؤون العمومية والمساهمة في خلق الثروة المادية وغير المادية والعدالة في تقاسمها وبدون عدالة اجتماعية ومن دون عدل قضائي..كلّ تونسي يأمل الأمن الشامل – أمن غذائي،أمن صحّي،أمن جسدي- لكن شروط هكذا أمن تكمن في حسن الاختيار على منوال حكم وتنمية بديل له لاءات بمثابت خطوط حمراء:
(1)لا لخصخصة القطاعات العمومية فهي ملك للعموم وحقّ الأجيال القادمة...على الدولة أن تعيد الأخذ بزمام الأمور في هذا الشأن.
(2)لا للاستثمار الحكومي في البنية الأساسية عدى مجالات التعليم والصحة والثقافة والفلاحة...على الخواص أن يستثمروا في بقية المجالات.
(3)لا لتمليك الأجانب...على كل مستثمر معنوي أو شخصي أن يؤسس لشراكة وفق مبدأ تقاسم الربح والمخاطر.
(4)لا لإحداث المؤسسات الكبرى(فلاحية،تجارية،صناعية،خدماتية)فلن يقدر عليها غير رأس المال الأجنبي وهي غير ذات جدوى تشغيلية وعادة ما تحدث أضرار بيئية كارثية...على الدولة التحفيز لإحداث المؤسسات المتوسطة والصغرى لتفتح المجال أمام رأس المال المحلي وتقلّل من المخاطر المالية(ديون،إفلاس)وتأثيراتها الاجتماعية.
(5)لا لحصانة النّائب بالمجالس النيابية(برلمان،مجالس محلية وجهوية)...على المجتمع المدني أن يبتدع آليات للمراقبة والمحاسبة ولسحب الثقة ممن لا أهلية له.

في الختام،لا يمكن إلاّ التّساؤل عن بعض الظواهر بالمشهد السياسي في علاقة بوضع صاحب رأس المال وموضوع الشأن العام.
ü      ما الغاية من التفاخر الحزبي بعدد المنخرطين من أصحاب رأس المال بهذه الجهة أو تلك،بهذا القطاع أو ذاك؟
ü      ما فحوى الرسالة التي يريد تبليغها بعض الأحزاب في تعيين بعض ممن أُدرج أسمائهم بخانة"الأزلام"على رأس قوائمهم الانتخابية؟هل هي رسالة للناخب المحلي أم لصاحب رأس المال أم لدوائر المال الخارجي؟
ü      ما الغاية من التأخير المقصود للتّطارح حول منوال التنمية البديل؟

الآن،وقد فتحت أبواب الترشح لـ"مجلس الشعب"،وجب التطارح حول هكذا تصورات للفرز السياسي والاجتماعي بدل التجاذب السياسوي وعوض المزايدة بعدد نقاط البرامج والمؤشرات الزائفة.لمن يروم منسوب هائل من الناخبين عليه أن يستدرج منافسيه إلى التطارح بحلبة"المنوال التنموي"وما يستلزمه من شروط،خاصة ذاك المتعلّق بآليات تشريك المواطنين في الخيارات التي تهمّه مباشرة،أي تلك المجالس المحلية والجهوية والإقليمية.إذا كان للمال السياسي دور في اختيار النّوّاب بالمجلس الشعبي فما بالك بالمجالس المحلية والجهوية والإقليمية !إذا استحوذ رأس المال على أغلبية بالمجالس المذكورة وبمجلس الشعب – وهو وارد جدّا في المرحلة الحالية مهما اختلف انتماءهم الحزبي- فعلى تونس"ألف سلام !"يا من تنادي بالأمن والأمان.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire