jeudi 4 septembre 2014

خاطرة حول التجارة الموازية - عبد المجيد بنقياس

انتفض شباب الجهات المهمّشة وأهالي الأحياء الفقيرة طلبا للشغل علّهم يوفّرون البعض من مستلزمات الحياة المادية الكريمة وافتكاك بعض الحريات الأساسية.انقضّ أغلب مكونات المجتمع"المدني"والتفّوا على الحراك الاجتماعي وحوّلوه إلى حراك سياسي جوهره صراع حول تصورات لمنظومة سلط والآليات الدستورية لضمان استقلالية كلّ منها وكيفية التداول الحزبي على السلطة.انخدع عديد المواطنين وانجرّ نصفهم وراء دعوات الأحزاب لانتخاب المجلس التأسيسي عاقدين الأمل في انجاز بعض الوعود الانتخابية.

تلكّأت الأغلبية بالمجلس التأسيس في إنجاز المهمّة لتسمح لأحزابها بالتموقع والتحكّم بمفاصل كلّ مؤسسات منظومة السّلط القائمة
وبالمؤسسات الإدارية وتنكّرت الأغلبية الفائزة لأغلب الوعود الانتخابية بل تصدّت لكلّ محاولة شرعية ولكلّ دعوات الإصلاح باستعمال الواجهة الإعلامية تارة والعنف والإرهاب تارة أخرى.في الأثناء تحرّكت كلّ المهن لافتكاك ما أمكن من المصالح الدستورية(قضاة،إعلام)والمطالب المادية المهنية وتكاثرت الجمعيات وفتحت الأبواب أمام تأسيس الأحزاب والنقابات.

في المقابل،ازدادت وتيرة غلق المؤسسات الإنتاجية وانكمش الاستثمار ممّا نتج عنهما ازدياد حجم المعطّلين عن العمل وارتفعت الأسعار بشكل جنوني وتراجعت الموارد المالية للدولة ممّا دفع بالحكومة،برغم التحويرات،إلى تلفيق المؤشرات وعدم الكشف عن الحقائق تارة،والبحث عن تعلاّت الفشل تارة أخرى،لكنّها لم تتوانى لحظة بالتمسّك بتلابيب السلطة ممّا جعلها تجدّ في البحث،في إطار من التصورات الفاشلة،عن مصادر لتوفير الموارد المالية داخليا عبر الجباية والإتاوة والرّقاع ورفع الدعم على المحروقات والمواد الأساسية وخارجيا عبر الاقتراض المشروط.

لمقارعة هذه المقاربة العرجاء"تبنّى"جلّ المهتمّين بالشأن العام،من أحزاب وجمعيات ونقابات وأفراد،المشروع الداعي إلى ضرورة القطع مع منوال الحكم ومنوال التنمية الفاشلان والبحث عن صياغة لمشروع بديل. ما هي النتيجة؟ كلّ الوعود الانتخابية سراب وغابت البدائل الدستورية والتنموية بل استكثر البعض مطالب المعطّلين وعاتبوا اعتصام بعضهم ورشّوا الأهالي بالرّشّ وزجّوا بشباب الحراك الثوري أمام المحاكم! ولم يكن بدّ أمام هذا الوضع المتأزّم باطراد من ازدياد منسوب الحراك الاجتماعي تحت شعار"التشغيل والتنمية الجهوية".

لمّا تبخّرت الآمال لم يتأخّر البعض من الشباب في المقامرة بهجرة سرية إلى أوروبا حيث الأزمة الاقتصادية أو ليبيا حيث الانفلات الأمني أو المتاجرة عبر حدود غير آمنة.لم نسمع دعوات إلى استنهاض همم أصحاب رأس المال للاستثمار والتشغيل والإيفاء بما عليهم من ضرائب للدولة! لم نسمع عن اتفاق دولي ثنائي أو متعدّد الأطراف لإدماج الشباب المهاجر !لم نسمع بمحاسبة المتهربين من أداء الواجب الجبائي ! بل قرعت طبول أذاننا بموضوع"التجارة الموازية"التي سُكب من أجل تعرية أهدافها وتأثيراتها أطنان من الحبر وتتطاير من أجل مقاومتها لعاب المحاضرين"المختصين"وكأنّ الظّاهرة وليدة اليوم أو كأنّها برميل بارود قد يفجّر هيكل المنوال التنموي القائم.لسائل أن يتساءل:ما هي الأسباب المنتجة لهذه الظاهرة ولماذا تُنعت بالموازية؟ما هو حجمها في تأثيرها اقتصاديا واجتماعيا؟ ما هي الوسائل المبتدعة ومدى فاعليتها للتصدي لانتشارها وتقزيمها؟
  
يرى البعض من مفكري الاقتصاد السياسي أنّ التبادل السلعي بين القبائل والأمم كانت رائجة منذ العصور الغابرة برغم الافتقار لوسائل النقل الكبيرة والسريعة وانتشار القرصنة قطّاع الطّرق بالمسارات التجارية المعروفة وانعدام آليات التأمين وعدم نضج المبادلة المالية.فالتجارة بالسلع الغذائية المصبّرة والتوابل والعبيد نشاط شرعي تحكمه آليات المروءة والضمان اللفظي والأمانة،وهي نشاط وليد المرور من نمط الإنتاج الهادف إلى الكفاف إلى نمط الإنتاج الباحث عن فائض للمبادلة لغرض الأمن الغذائي والرفاهة،وهي سبب أصلي في ميلاد فئة اجتماعية تمتهن التجّارة والمضاربة.لكنّ الأمر تغيّر مع تشكّل السلطة المركزية الإقطاعية التي اقتطعت الأراضي الفلاحية والمناجم(مناجم الملح والفحم الحجري والذهب...الخ)واستأثرت لنفسها بحق المتاجرة تحت تعلّة الأمن الغذائي لغاية الأمن الشامل والجباية لتوفير الأمن والخدمات.بهذا استفردت النظم الإقطاعية بالتجارة"القانونية"،وكلّ ما عاداها يصنّف في خانة"التجارة الموازية"المضرة بالأمن والاقتصاد،وأعطت لنفسها الحقّ للعب الدور التعديلي في ظلّ مناخ عُرف باحتداد وتيرة الاضطرابات الداخلية والحروب الخارجية وانعدام الاستقرار المناخي.وقد دأبت الحكومات الإقطاعية على توظيف الضرائب العينية على الإنتاج وعلى الرّقبة قصد تجميع كميات المحاصيل الضرورية للخزن والتصريف زمن الحاجة.كما يختزل البعض الآخر الإطار الزمكاني للـ"تجارة الموازية"معتبرين أنّ للثورة الصناعية الأوروبية والمؤسسات الوليدة حينئذ دور كبير في انحسار نمط الاقتصاد المركنتيلي وهو الذي دفع ببعض الأفراد والشركات العائلية إلى نسج شبكة موازية للتجارة بالمواد الفلاحية أولا ثمّ الصناعية في مرحلة متأخّرة.وقد عملت الدول التي اعتمدت نمط اقتصاد السوق على حماية الإنتاج القطري أو القومي بحزمة من القوانين في إطار تموقع كلّ منها داخل أوروبا أولا وفي العالم ثانيا من خلال آلية الاستعمار المباشر.

أمّا في تونس،فيعتبر البعض أنّ التجارة الموازية ظاهرة حديثة نسبيا،باعتبار النمط الإقطاعي السائد وقتئذ،ويؤقتون لنشأتها انطلاقا من ستينات القرن الماضي ومحدّدين إطارها بإحداث الدواوين والشركات الحكومية(ديوان الحبوب،ديوان الزيت،ديوان الخمور،شركة اللحوم،شركة الحليب..).كما يقرّ هؤلاء بأنّ الحكومات دأبت من حينئذ في محاربة ظاهرة المتاجرة بالسلع الفلاحية الأساسية أساسا،باعتبار انعدام منظومة الصناعية وخاصة الصناعات الغذائية.كانت كتلة السلع المتبادلة وتنوعها محدّدة أساسا انطلاقا من حاجات الجهات من المواد الاستهلاكية الأساسية والملابس والأحذية التقليدية.وقد اعتمدت الحكومات المتعاقبة على استعمال عدّة وسائل لمحاربة الإطار القديم للتبادل السلعي بعضها تقني وذلك من خلال تأسيس الدواوين والشركات الحكومية إلى جانب التحكم في التسعيرة بتعلّة التعديل وضرب الاحتكار،وبعضها الآخر قانوني بإصدار قوانين للعقوبات الجزائية ضدّ المخالفين المهربين ووسائل ثالثة إعلامية تحت غطاء ضرورة المحافظة على الصحّة العامة وضرورة الجباية لتقوم الدولة بدورها الاقتصادي والاجتماعي

إن كان لهذه الترسانة من الوسائل لها ما يبرّرها في تلك الفترة وهو ما يفسّر الانخراط الفعلي للمواطنين بمقاطعة الشبكات الموازية،إذ كان للدولة دور اقتصادي واجتماعي شرّعا لها لعب الدور التعديلي محافظة على المقدرة الشرائية والصحّة العامة لشرائح وجهات عديدة وقع تهميشها خلال فترة الاستعمار المباشر.إلاّ أنّ هذه الوسائل لم تعد لها الشرعية بمكان نظرا لمنوال التنمية الفاشل المتبع الذي قلّص من وظائف الدولة الاقتصادي والاجتماعي وهمّش الفلاحة التي تعتبر العمود الفقري للاقتصاد،وهو النشاط الوحيد بالعديد من جهات البلاد خاصة الحدودية منها.فالميكنة الفلاحية وسياسة الخصخصة المعتمدة زادت من تهميش الفلاحة التي نُهب فائض قيمتها من طرف حفنة من المصانع الغذائية ومن طرف بعض الفضاءات التجارية الكبرى ممّا زاد من عزوف الشباب الريفي المتنامي عددا وكفاءة،إن كان وريث أو عامل،على النشاط بمثل هكذا قطاع غير ذي قدرة تشغيلية كبرى وغير مربح ماليا فلم يبقى من حلّ أمام الشباب غير المخاطرة بالنزوح أو الهجرة المقنّنة والسرية أو المتاجرة بما جرّم القانون.وتبيّن الإحصائيات عدم جدوى الوسائل المتبعة لتضييق الخناق على"المارقين"،فهذا النشاط يشكّل أكثر من 50% من النشاط التجاري ويساهم بـ 40%من الناتج المحلي الإجمالي ويشغّل قرابة 520 ألف مواطن.في المقابل تستدلّ الحكومة وبعض من تضررت مصالحهم نسبيا بالخسائر الجبائية السنوية المقدّرة بنسبة 12% من مجمل المداخيل المفترضة.
إن كان للحكومة بعض المبررات التي تؤكّد انحيازها للقويّ اقتصاديا،فإنّ صوت أصحاب المؤسسات"المتضررة"لم يرتفع إلاّ بعد أن انسدّت أمامه أبواب التصدير بفعل الأزمة العالمية الخانقة وبفعل قوانين المواصفات التصفوي للولوج إلى فضاء التجارة العالمية.

إذا كان للحكومة دور أن تلعبه لضمان الدخل الجبائي المستحقّ فعليها البحث عن وسائل تحفيزية لا المطاردة لتفكيك شبكة التجارة"الموازية".فالحياة حقّ لكلّ مواطن فوق هذه الأرض،والحياة تستحيل بدون دخل مادي ضامن للكرامة والرفاهة البيولوجية والنفسية والعائلية.لهذا من حقّ الشباب العاطل البحث عن مورد رزق وإن كان باتباع أوعر المسالك وأخطرها بالمعنى الطبيعي والمالي ما دامت الدولة لا تملك البديل التنموي القادر على استيعاب المنسوب السنوي للشباب من طالبي الشغل.لو اتبع نفس المنطق،سيجرّم يوما ما كلّ عائلة أو شخص يروم التقاليد في تصبير وخزن المواد الغذائية !! ما دخل أبناء تونس المعطّلين والعائلات المفقرّة في التأثيرات السلبية لمنوال طاحن لطموحاتهم البسيطة؟ إن نزحوا نحو المدن للبحث عن الشغل يدحر بهم في أتون المؤسسات العاصرة لعرق جبينهم أو بالسجون..إن حاولوا الهرب عبر البحار والصحاري قد تسلبهم الأسماك والأفاعي الحياة أو يقبعون بالسجون لتتجار بحريتهم السماسرة والحكومات.

على الحكومة أن تبذل ما في وسعها لتفعيل اتفاقيات الشراكة التجارية الثنائية المبرمة مع دول الجوار(ليبيا والجزائر)كما عليها أن تغير منوال التنمية وإيلاء الجهات الحدودية الغربية والجنوبية الاستحقاقات من الاستثمار العمومي والخاص كما عليها التحكم في أسعار المواد الصناعية(ملابس،أحذية،كهرو-منزلية)وفي أسعار الطّاقة والعجلات المطاطية حتى يقلّ منسوب السلع الواردة عبر هذه الشبكة"الموازية"والتحفيز على استهلاك الإنتاج الفلاحي التونسي ووقف التوريد العشوائي.على الحكومة أن تقوم بخطوات هامة في اتجاه لعب دورها الاجتماعي وذلك عبر تشغيل جزءا من الشباب المعطّل وذلك بوحدات الإنتاج والتحويل العمومية(فسفاط،بترول)وأن تساهم هذه المؤسسات بدور تنموي اقتصادي واجتماعي بالجهات حيث هي منتصبة  والتعجيل ببعث صندوق البطالة.

أمّا عن المؤسسات التي تدعي الضرر من هذه الشبكة عليها أن تدرك أنّ منبع تمويل هذه الشبكة يكمن داخل الفئة المحتكرة وفوائده راجعة إليها وهي مخزّنة بالبنوك و/أو مفعّلة في المضاربة العقارية المؤسسات أوّلا،وعليها أن تعترف بأنّها وليدة الخصخصة التي منّ بها عليهم هذا المنوال الفاشل ثانيا،لهذا وجب عليها أن تتحمّل الشوائب السلبية لسياسة طالما صفّقوا لها وشاركوا في صياغتها وامضوا على اتفاقياتها.إذا ما راموا الانخراط في عملية مقاومة للتهرب الجبائي فليبدؤوا بالكنس أمام ديارهم وإن أرادوا الانخراط في سياسة المنظمة العالمية للتجارة لمحاربة الأسواق شرق آسيوية فعليهم بطلب التعويض من منظوريهم.ما دخل الفقراء والمهمّشين في صراع قائم بين صقور المتوحشة صاحبة رأس المال؟

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire